تلاشـــــيـات

عدت أسير على قدميّ بعد أن أحسست بأنني نأيت نوعا ما عن مضارب قومي . كنت سارح العقل ، خال البال ، كنت في الوقت نفسه أفكر في أشياء مختلفة و لا أفكر في شيء بعينه، كانت نفسي مشتتة أشلاء بين جسدي تئن بأنين كل مفصل في جسدي، كان الرابط بين مفاصلي قد هاله الأمر فاستأذن بالمغادرة قبل الأوان.
منذ بضعة أيام كانت الأمور تسير كما أريد لها و لكن هاأنا أجد نفسي تائهة و ذهني شاردا ، شرودا قد يمتد في بعض الأحيان على مساحات زمنية لا بأس بها ، أجد نفسي توجّه في مسارات لا نهاية لها، على الأقل لا يتراءى ذلك للعيان نهايتها بعيدة بعد الجفن عن العين.
مع مطلع كل يوم أطلق ساقيّ للريح و عادة ما أغلبها و لا أتعب بتعبها بل أكون معتدا بذاتي ومؤمنا بقدرتي على مصارعتها و الانخراط معها في رهان أحسبه مضمونا قبل انطلاقه.
أسير ... وأسير مع انبلاج كل فجر لكنني أجد نفسي مع احمرار قرص الشمس إيذانا بالغروب متراجعا مثقل الخطوات أنهكني التعب دون أن أنال مبتغى نفسي الذي أحتويه بين أضلعي و لا أعلمه فقط أحس أن نفسي كلها تنطلق تريد أن تعانق شيئا ما و لكن المسير في كل يوم يزداد طولا و تزداد قواي ضعفا و خورا و تصبح غير قادرة على التحمل فأجد نفسي أطوي هذا المجهول بين أضلعي و أعيد أدراجي إلى مضارب قومي قبل حلول الليل.
أعود بيدين فارغتين و ذهن شارد و ساقين متورمتين ، أحاول أن أستجمع قواي لأتدبر أمري و أتبادل الحوار مع أبناء قومي لكن النوم يباغتني فأحسّ عيني تثقلان و أحس برغبة تدفع رأسي للارتخاء على كتفي و أشعر أن جلّ مفاصلي تتفكك شيئا فشيئا فأنخرط و بسرعة فائقة ضمن هذا التيار مستسلما لنوم عادة ما يكون عميقا ميزته أنّه مليئا بالمفاجع و الأحلام المرعبة و المخيفة.
أعيش حياتي مرتين في اليوم ، نهاري الطويل أقضّيه سيرا على الأقدام بحثا عن المجهول من لحظة انفصال الشمس عن موقعه شروقها حتى لحظة استقرارها في مكمن غروبها، ثم يوما آخر لحظة زيارة النوم لعيني ، هذا الضيف بمجرد أن يحل في مضيفتي أتحول معه دون قيد أو شرط إلى عالم آخر كله مخاطر ، مخاطر من نوع نادر ، مخاطر تتطلب شجاعة نادرة الحضور ، عالم أبحث بين ثناياه عن ذاك الشيء الذي أحتويه بين أضلعي لكن أفشل في تحديد كنهه فقط لأن ذهني في تلك اللحظات يكون مقتطعا من الوجود غائبا عني ، فقط مخيلتي تكون في حركية نشيطة فكل ما يتصـور لي أثناء نومي و مهما كانت عظمته مع يقظتي أحاول أن أتذكره أو على الأقل أسترجع خطوطه العريضة فلا تسعفني ذاكرتي سوى ببعض تلاشيات منه إن كنت محظوظا .
تونس 16 أوت 1999