فهد عامر الأحمدي من جريده الرياض
.. أنا أذكر ذلك جيدا ..
كنت حينها في المرحلة الابتدائية أذاكر دروسي في غرفة التمريض الخاصة بوالدي في مستشفى "الملك" بالمدينة .. وكان قد انتهى للتو من إعطاء أحد المراجعين حقنة في العضل حين سمعنا جلبة في الخارج ففتح الباب فلاقاه رجلان (من موظفي المستشفى) يحملان جسدا على نقالة طلبا إدخاله للغرفة. وبعد أن سمح لهما والدي بإدخاله عاد وخرج معهما وطلب مني البقاء في غرفة التمريض حتى عودته. وهكذا بقيت أنا والجسد المسجى لوحدنا في الغرفة دون تأكدي من طبيعة "الشيء" الموجود تحت الغطاء.. وهكذا اقتربت خائفا ومترددا حتى كشفت الغطاء فرأيت رجلا شاحب الوجه جف الدم أسفل منخريه.. كان منظرا مفزعا أجبرني على الهرب لركن الغرفة دون إعادة الغطاء على وجه الميت.. ولسبب ما تأخر والدي عن الحضور الأمر الذي سمح لي باختلاس عدة نظرات لاحقة والتأمل في معنى الوفاة والسكون التام !
ومن يومها لم أكف عن التساؤل عن طبيعة الفرق بين الجسد الميت والحي... فحين تضع جسدا ميتا بقرب جسد حي (يساويه في الحجم والوزن) فأين يكمن الفرق؟.. فكلا الجسدين يتضمنان مادة الأوكسجين بنسبة الثلثين، وكلا الجسدين يتضمنان مادة الكربون بنسبة السدس، وكلا الجسدين يتضمنان مادة الهيدروجين بنسبة العُشر، وكلا الجسدين يتضمنان النيتروجين الكالسيوم والفوسفور والبوتاسيوم والحديد بنسب متماثلة ( وكل هذه العناصر المجتمعة لاتساوي في سوق الخردة 50 ريالا) !
إذا؛ مالذي يميز الجسد الحي ويمنحه شعورا ذاتيا بالتواجد والوعي والإدراك..؟ مالذي يدب داخله ويضفي عليه ميزة الحياة والحركة والإرادة الذاتية..؟ مالذي يضفي على كومة لحم (لا تساوي 50 ريالا في سوق الخردة) هالة من النور والعظمة وعلو المنزلة !؟
أسئلة كثيرة يختصرها معظمكم في كلمة ( الروح)..
ولكن.. رغم أن الروح من أمر ربي {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} إلا أن هذا لا يوقف عقولنا عن التفكير في موقعها وآثارها ونتائج وجودها في الجسد.. وحين نراجع آراء علماء الإسلام نجدهم لا يتحرجون من محاولة وصف الروح ورصد حضورها دون ادعاء فهم جوهرها أو مكنونها (ويكفي الإشارة الى العدد الكبير من الآراء المطروحة في كتاب الروح لابن القيم الجوزية)..
أما في عصرنا الحاضر فنظمت تجارب كثيرة لملاحظة أي فروقات طفيفة تظهر بين حالتي الموت والحياة.. فهناك فرضية طبية تدعي أن الإنسان حين يموت يفقد فجأة 21 جراماً من وزنه كدليل على خروج روحه من جسده.. وأول تجربة حاولت التحقق من هذا الادعاء نظمت عام 1990 في مركز تنسي للعلوم النفسية من خلال مريض في طور الاحتضار وضع على سرير الكتروني يقيس أدنى تغير في الوزن.. وخلال مرحلة الاحتضار كان يفقد بالتدريج غرامات (مأخوذه في الحسبان) نتيجة الحرارة والتعرق؛ غير أنه فقد وزنا مفاجئا حسب تقرير التجربة حين توفى فجأة وتوقف قلبه عن النبض .. وفي جامعة موسكو نظمت خمس تجارب مشابهة (في عام 2003) لوزن أجساد البشر قبل وبعد الوفاة بواسطة أجهزة حساسة ترصد أي تغيرات فيزيائية مفاجئة. ورغم أن التقرير النهائي نفى وجود أي تغيرات في الوزن إلا أنه رصد تغيرات فيزيائية دقيقة عند الوفاة (مثل انطلاق جسيمات تحت ذرية كالنيوترونات والبروتونات والنيوترونات المضادة) !!
.. على أي حال .. مايهمني شخصيا ليس التوصل لجواب بقدر إبقاء جذوة التساؤل بحالة اتقاد.. فمجرد التساؤل دون الوصول لإجابة نهائية يشكل متعه عقلية لا يمكن (لغيرك) الإحساس بها أوالتأمل بتداعياتها !