العودة   نجاح نت > المنتديات التعليمية و التوظيف EMPLOI MAROC > المواد الأدبية > العربية

العربية نجاح نت العربية كل مايتعلق بمادة العربية من دروس اللغة العربية وتمارين في الدرس اللغوي,شعر , النتر ,الروايات, تمارين محلولة,إمتحانات موحدة ,إمتحانات جهوية,حلول الإمتحانات,1bac,2bac,Recherches,Examen Cours, Exercices لتلامدة الإبتدائي والإعدادي والتانوي وبشمول الجدع مشترك و الأولى باك والتانية باك.

إضافة رد
أدوات الموضوع
طريقة عرض الموضوع
قديم 10-28-2009, 08:44 PM
  #1
Mouchmabir
عضو شرف
 الصورة الرمزية Mouchmabir
 
تاريخ التسجيل: Mar 2008
الدولة: المغـــــــرب
المشاركات: 1,514
Mouchmabir is a glorious beacon of lightMouchmabir is a glorious beacon of lightMouchmabir is a glorious beacon of lightMouchmabir is a glorious beacon of lightMouchmabir is a glorious beacon of lightMouchmabir is a glorious beacon of light
إرسال رسالة عبر مراسل MSN إلى Mouchmabir إرسال رسالة عبر مراسل Yahoo إلى Mouchmabir إرسال رسالة عبر Skype إلى Mouchmabir
افتراضي كتاب نفاضة الجراب في علالة الاغتراب للسان الدين بن الخطيب

ولما استوى ما أمر بإشالته ورفعه من العدة والآنية والفرش والماعون والفساطيط والآلة وأبهة الإمرة وعتاد الخزائن، قصده بحريمه الأسود الماجن سليمان بن ونزار تلقاء العدو، فما أمسى إلا وأروقة الخلافة ترف فوقه وآلاتها تُصَرَّفُ بين يديه، وأرائكها تنضد لجلسته، وظهرها وحمولتها مرتبطة بازاء رستاقه، وقصد ظاهر البلد الجديد فنازله وأحاط به وكاتب الجهات فلم يختلف عليه اثنان، فقدم العمال والقضاة وأجرى العوائد وجدد الصكوك، وأخلى بينه وبين الناس، وأفرط في التنزل والضعة والتمني، وحط الأبهة استئلافاً للنفوس. ووالى حصار البلد المذكور فرتب عليه المقاتلة ونصب المجانيق والعرَّادات، وقاد الستائر والأكبش والدبابات، وأدار عليه البناء من الجهات وسكن بشرقيه في الهضب أَبغران، وأمر الخاصة بالسكنى واستدعى من البلاد البحرية عُدد الأساطيل من التِرْسة والمجانيق والحديد لاتخاذ الآلة والمعاون وأمراس الكتان والشهدانج لحل الأقفال، واستنفد الوضع فلم يحل بطائل. وقد اضطلع محصوره وأفاق من الطخية، ومَرَن على الحصار واعتز بالمال فأجاب داعيه الكثير من ذؤبان الرجل أولي النجدة ومساعير الحرب وأرباب العتا والصبر واقتحمت إليه بالمضغ والأدم راكبو أعناق الأخطار ومرخصو أثمان النفوس بين يدي ما يرومون من الربح، وناهزت الحال شهرين كابد من شجا البلد المحصور خطباً، ولم يتهنأ معه ملكاً واحتاج إلى المال فلم تنجده البلاد التي شحت ينابع أرفادها للهب الفتنة، وأمسكت أكف غارميها دواعي الهرج، وقرب عهد ولاتها بالدفع لما يحصى من الخَرْج، إلا ما كان من أوقاف وأموال صدقات وودائع لا تقع مما يريد في نسبة عددية، وأباح الدسيعة للقبيل، ولم يستأثر عنه بفلذه، وأطلق الأيدي على كل طلبه ولم يسمع عنه لا في مسألة حتى جرى في ذلك غير ما صحكه. ووصل ولده اللاحق بجبل هنتاتة، المستقر في جُوار رئيسها المِدْرَه في الدّهْى والحزَامة، وأحد الآحاد في إقلمة الرسوم الحسنة والإرعاء على الرتبة والتزين بالوقار والسكينة، عامر بن محمد بن علي الهنتاتي حسنة هذه المُدَد المتأخرة، والمغبر في وجوه الوجوه السابقة، مصحباً بزينة الملك وآلات السلطان، مُتَعدِياً طوره، لابساً للناس غير لِبْسة أبيه، من الأنَفِ والتجبر وتعاطي خطة الفراعنة، من غير أن تشج العروق أو يملك البيضة، صبي اسنه علي، أشوس اللحظ، شامخ المارن، رأى لنفسه قصوى المزية، أنكر على الشيخ فضل التَّنزل وعَبَس وبَسَر في الأوجه وتوعد على التقصير فكان أدعى الدواعي إلى هلاكه وهلاك أبيه، ولله أمر هو بالغه سبحانه.
ولما طال على الأمير أبي سالم عَرْضُ نفسه إلى مَنْ حَرَّكه إلى طلب حقه، وسئم التردد واقتضى أجوبة مستدعيه مراجِعَةً بخروج الوقت، ناعيةً إبطاءه، إلى تنوع الحال وإخفاق السعي واجتماع الكلمة على الغير، انصرف بخفي حنين، وقد وصلت أحواز مرساه الحصةُ مانعة إياه من النزول آخذةً على أيدي من أقرضه الصنيعة وأبدى له صفحة القبول. ولما وازى وجهه الصَّفيحة من أحواز أصيلا تبادرته قومٌ من غُمَارَة سكان ذلك الجو وعقبان ذلك الدَّو، فانحدرت إليه ووعدته بالوفاء له، فنزل وربما نالته في الصحصاح شدة تخلص منها بعد الكيْت، واحتملوه فوق أكتادهم ثم اعتاموا له هجيناً من مراكب سَراتهم المستهلين إلى مجامع التباعات، أمطوه صهوته، وأحدقوا به في سفح الأدنى من جبالهم، وأخذتهم الحَمِيَّة فتنافس في الذبّ عنه والقيام بدعوتهم شعوبهم وقبائلهم ثم كبسوا مدينة أصيلا حاضرة بلدهم فتغلبوا عليها وضيقوا خارج مدينة طنجة وتوعدوا أهلها بإفساد أموالهم المُصْحِرة، فدخلوا في أمره، وقد تسامع من بجبل الفتح من قبيل غماره بالأمر فسلكوا سبيل قومهم في الانقياد له فقبضوا على واليهم الوزير البقية، الحسن الرُّوا، العذب الكلمة، علي ابن العباس بن موسى، وقد أغفل الحزم واختلط بسوادهم اختلاط الثقة بهم، فكانوا أملك به. ولم يسع من بسبتة جارهم المصاقبة الامتناع، فوجهوا من مشيختهم من قرر الأمر وضمن الطاعة.
واتفق على تَفِئَةِ ذلك أن وصل سبتة الغراب الموجه إلى الإسكندرية أخريات الأمير أبي عنان، راكب عنقي البحر والبر، مما حدّ له شراؤه من متاع الشرق وطيبه وطرفه، فحط بسبتة، وكانت بضاعته مما جملت العَطَل وموهت الخمول.

(1/69)

ولحق به لما تصيرت إليه طنجة الأحسن بن يوسف الخيري من شيوخ قبيل بني وارتجين، المشار إليه في الصلف والترف والتأنق في فاخر الكسوة، والممتاز بحسن الركض وتفاهة ميدان السلم متوجهاً إلى رُندة، والشريف الندب نسيج وحده في قوة الشكيمة ومضاء الحد وفضل الصرامة، مُطَبَّق المِفْصَل، وفاصل الخطة ومعز الرسالة ومحل الرجولة المستولَى على الأمد، حُسْنَ رواء وفصاحَة لفظ ونصاعة طرف وبراعة أدب وعموم مشاركة وإمتاع، أبو القاسم حسن بن يوسف الحَسَني، ضاق به رحب الدائل، واتهمه بالحمل عليه فصرفه إلى الأندلس مُوَرِّياً بغرض الرسالة تحرجاً من التصدي لمضرته، وإرعاء على منصب شرفه، فارتاش، واستظهر من المريني بقيّوم الوزارة، ومن الشريف بتجديد المجالسة ولسان الدست وظهير التدبير. وسكن من يومئذ المضارب واتخذ بعض الآلة، وتلاحق فرسان الطاعة من أهل الجبل ورندة. وتوجهت إليه الحصَّة من ظاهر البلد الجديد فوصلت قصر كتامة واضطربت به فَبَيَّتَتْها خويلة مع الوزير الأحسن ابن يوسف، هزمتها واستاقت كُراعها وعُدَّتَها، وصرف إليه بعدها منصور بن سليمان العناية، فبعث إليه حصة خشنة لنظر ذَمرٍ من رجال دولته معروف النفرة عن السلطان أبي الحسن وبنيه، مُردَفةً بأخرى لنظر أخويه عيسى بن سليمان وطلحة. ولما صمما نحوه، لاذ بسفح الجبل وأهمَّ من لديه أمرُهُم، ووقع القتال بتناصف القوم، أول أيامه، ثم بان الظفر لأكبر الطائفتين، ودوخل القبائل من غمارة وأطمعوا بالمال فمرجوا في أمره، وهمت به طوائف منهم ونشب بنفسه، لولا أن الله فصل الخطة وفرج عنه الكربة، وهناه المنحة وقسم له الحظ ضربة لازب، لا ربّ سواه سبحانه ولا مبدل لكلماته. وكان من الأمر ما يذكر إن شاء الله.
رَجَع: ولما اتصل بالوزير الحسن بن عمر، الثابت المقدم بالبلد الجديد المحصور، عبور الأمير إبراهيم، واتصاله بجبل غمارة، ودخل إليه جاسوسه المهدي باكورة خبره، رفع الأعلام، وشهر الاستبشار، وقرع الطبول مستبشراً به ومظهراً للناس النجح بمكانه فخلخل طاعة حاصره، وفَتَّ في عضده لاختلاف أهواء من لديه واضطرابهم ومَرَه بصائرهم، وغلبة التلاعب بالملكات عليهم، خوراً في الطباع، واحتطاباً في حبال الدائلين، وفي لمة من الفرسان، هاج حفائظهم، واستفسدهم عليه، لمضايقته إياه جاهلاً بوزانه، مخدوعاً في ثمن دُرَّته، مفضلاً عليه يومئذٍ صاحب العلامة، صبياً من ذرية منديل الكناني خالصة دولتهم في القديم أصعر الخد، خلو من الخلال الراجحة، يرى أنه سبط من أسباط إسرائيل الله في دول اليعاقبة، صَارَفَه الجفوة فلم تجزها طباعه الأبية، وارتكب الخطر وتجاوز الأحراس والأهوال فاستقر لديه مُخْملاً كثيراً من صاغية الناس. وتولى للأمير إبراهيم كبرَ الأمر وأحكامه في السرّ خطيب أبيه ورسوله، نسيج وحده وأعجوبة دهره والبعيد الشأو في هذا الميدان، الشيخ الفقيه الخطيب الشهير أبو عبد الله بن مرزوق، متلقى كرة الدولة والمستأثر بعد بالزبدة، فداخل الأشياخ ومهد الطاعة وكاتب في السر وردَّد مُداخلة البلد المحصور فكانت الطائلة لحيلته والبلاء الحميد لدسيسته ليقضي الله أمراً كان مفعولا. والأنْوَكُ المخدوع عن نفسه ذاهل عما وراءه، قد خضب الشيب وأعرس وهو على مقرب الصَمْغَة كأنه أخذ بقول الشاعر:
قومٌ إذا حاربوا شدوا مآزرهم ... دون النساء ولو باتت بأطهارِ
وأشار عليه ولده بالقبض على الوزير لما حذره من المداهنة في أمره فغلت يده عنه لينفذ فيه قضاء الله وقدره. وأوحش عميداً من رؤساء جنده المظهرين له على أمره، المناصحين بالجِبلَّة والغُربة لسلطانه محمد بن يوسف بن نصر المنبز بالأبكم الرئيس، البطل البهمة، راكب ظهر التهور، الحميّ الأنف، المرشح بالأندلس للإدالة، المفتتح من حضرة تونس دار الخلافة، جاهلاً بوزانه ومجرياً عليه حكم غماره، فأمر بثقاف حرمةٍ له لم تعرف قط إلا الحجبة، فقارضه سوء الدخلة.

(1/70)

وفي اليوم الثالث عشر من شهر شعبان عام ستين وسبعمائة، نَهَدَ هذا الرجل الموتور مورياً بالقتال ومدافعة من يبرز من حامية البلد، وقد راسل صاحب الأمر به، وصدق الدفاع، وأعطاه من بين يديه الضُّمة فدخل البلد، وقد نالت الجراح كثيراً من أتباعه لخفاء الغرض عن حماة البلدة، وثقات المراصد، وشاع بالمحلة أنه افتتح البلدة ودخلها عنوة، واستركب السلطان المغرور، ووقع النفير فتمخض الأمر عن الزُّبدة، وحصحص الحق بعد الشُّبهة واستراب الوزير المستوحش من وعيد الولد، فتحيز إلى المدينة وسلك سواه مسلكه من الرضا بالمدينة، وحَمِيَتْ أنفس المحصورين وهم شوكة وذمّرهم من لحق بهم، فكانوا لهم أسوة، فبرزوا ينهبون المحلة ووقع البَهْت وغلّت الأيدي ونزل من الله الخذلان. ووقف مغرورهم منصور ابن سليمان وولده موقف الحسرة، وتورطا في شَرَكِ الدَّهش والحيْرة ينشدان الأرحام، ويدْعُوان الذمام ويحترشان ذمم الحرية فلم يُلو إليهما لِيت ولا رُفعت لهما عين، ولا دافعت عنهما يد، ولا رُوعي لهما عهد فانصرفا في شرذمة محروبة تتقاصر عن العشرين فارين على وجوههم إلى جهة بادس. وكان من الأمر ما يأتي به الذكر إن شاء الله.
ولما تلاحق وزير الحائن بابن عم عمه الوزير القائم بأمر البلد نازعاً إليه، رابه قبوله وخافه على نفسه، فلم يلبث أن برز لحينه في سبيل المدافعة فصرف وجهه إلى الأمير المقبل أبي سالم وثَنَت الناس الأعنة إليه، فلم يَرُعْه أضيق ما كان خناقه، وأوفر ما كان فرقه، وأقصر ما كان أمله، إلا الخبر بالفتح الذي لم يلبس له لامة ولا اقتحم هولاً ولا تسربل عَجَاجَه، واتصل بالحصص الآخذ بمخنقه، فألقى قوّادها أنفسهم عليه وأخذوا أمانه، فغرب لحينه منهم أخوى طريده إلى بر الأندلس - وتحرك يوماً والناس يتسايلون عليه أثناء طريقه على اختلاف طوائفهم مهنين، وبالطاعة باخعين، وللوسائل مقررين، ومن الذنوب السابقة إلى سلفه مستغفرين، فقوبل كل بصاعه وأجيب ببسط أمله.
وخاطب سلطان الأندلس بما نصه:

(1/71)

من عبد الله إبراهيم أمير المسلمين المستعين برب العالمين بن مولانا أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين أبي الحسن بن مولانا أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين أبي سعيد ابن مولانا أميرالمسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق أيد الله أوامره، وخلد مناقبه الكريمة ومآثره، ووصل لدولته العلية السعود، وأنجز له من مواهب النصر الموعود، وزين بإِعلاء كلمته الوجود، إلى محل أخينا الذي مجده أصيل، وشرفه شامخٌ جليل، وحكم رأيه في حفظ المودة مرضي مقبول، وعلاء همته وزكاء أوصافه السنية وشيمه كاف بتعديد الممادح وإحراز المحامد كفيل، وفي استغنائه عن ترديد الثناء دليل، فزاده تعظيمٌ وتبجيل، ودولته العلية في وجوه الأيام غررٌ وتحجيل، ولعزماته الماضية في حد الشرك تفليل، وفي يد الإسلام بذْل وتنويل. السلطان الكذا بن السلطان الكذا بن السلطان الكذا ابن السلطان الكذا، أبقى الله دولته العلية فَلكاً يستضاء بكواكبه ويستنار، وحَرَماً يحتمى به من الخطوب ويستجار، وَوَصَل لها سعداً ما تعاقب الليل والنهار، ونصراً يحمد منه في الإسلام الآثار. سلامٌ كريم، برٌ عميم يخص أخوتكم الباسقة الفروع، ذات الفضل الذي هو أوضح من الشمس عند الطلوع ورحمت الله وبركاته. أما بعد حمد الله الذي ألَّف برحمته بين قلوب المؤمنين من العباد، وهداهم إلى التمسك بحبل الطاعة التي بصَّرهم فيها بمواقع الرشاد، وجعل الخلافة حَرَماً آمِناً طهره من دنس الظلم والإلحاد، وكتب الشقاء على من رَامَهُ من غير أهله بما اقترفه من كبائر الفساد، ووعد من استعان بع وتمسَّك بسببه من النصر والإنجاد، والتأييد الذي يمده من الفتوحات بأعظم الإمداد، والصلاةُ والسلام على سيدنا ومولانا محمد النبي الهادي المختار من بيت الشرف الرفيع العماد، سراج النبوة الوقَّاد، والشفيع المشفَّع في الميعاد، وعلى آله وأصحابه الذين جاهدوا في الله حق الجهاد وآوَوْا ونصروا على استيلاء الكفر وظهور البغي والعناد، وأحسنوا بعده الخلف في أمته بالاتباع لأوامره والانقياد، وصلة الدعاء لهذا الأمر العلي المؤيد الكريم السلطاني المستعيني الإبراهيمي بالنصر الذي يُجري جياد البشائر في أفسح الآماد، والفتح الذي يرتاد محلنا السامي أي ارتياد، والتمكين الذي يقر جنبات السيوف في مضاجع الأغماد. فإنا كتبناه إليكم كتب الله لكم سعداً تنتظم في قلائد المجد دُرَرُه، وعزاً تتضح في وجوه الأيام غرره، من منزلنا الأسعد بأمر جن يمنه الله، والأقدار في مساعدة أمرنا الكريم نافذة وماضية، وأجياد الملك بالبشائر المتتابعة، والمسرات المرادفة حَالية، ووفود الفتوحات على بساطنا الأشرف مزدحمة متوالية، ومُقَدّمات النصر من شوائب العناد سالمة، وعن الأوهام الكاذبة عارية، والحمد لله على ذلك حمداً نستزيد به عوارف جوده، ونستدر به أخلاف مذخوره، من النعم وموعوده، والحب فيكم صميم، والود في إخائكم ثابت سليم، والحمد لله على ذلكم وعنايتنا بجانبكم موصولة بالخلوص مشفوعة، وأحاديث مصافاتكم في الحسان العوالي مرفوعة، وشِيَمُ مقامنا الكريم على مشايعتكم ومؤازرتكم مطبوعة، وإلى هذا وصل الله سعادتكم وحَرَسَ بتوالي النصر والتأييد مجادلتكم وأجزل من مواهب الفتح إفادتكم. فإنكم علمتم خبر سفرنا وما كان إليه بعد خروجنا من غرناطة المحروسة مآل أمرنا، وإنا لما اتصل بنا شأن الحضرة وقوى ما كان عندنا على سرير الملك من الغيرة، خرجنا وقد اشتهر من ذلك ما اشتهر، نحاول ملكاً أو نُعذر، فاتخذنا سبيلنا في البحر عجباً وجعلنا الفلك المشحون لوصولنا إلى الحضرة سبباً، فلما انتهينا إلى هذه العدوة وآوينا منها إلى أسعد ربوة، طفقت البلاد تصافحنا بيمناها، وتستبشر من دولتنا الكريمة ببلوغ مناها، وتبث إليها من التشوق إلى دعوتنا العلية شكواها، وتفتخر بالانتظام في سلك طاعتنا وتتباها. وعلمت أنه قد نَهَدَ إليها معاذُها، وقوى على حين توهُّم الصعب ملاذُها. وآن أن يقام الحق والعدْل فيها، وأن يغمر ظل الأمن والعدل نواحيها وبادر إلى التمسك بالطاعة الكريمة أهل الجبل وطنجة وأصيلا وقصر المجاز وجميع البلاد الريفية والقبائل الغُمَارِيَّة، وكان الشقي الخاسر منصور ابن سليمان، قد امتدت في الفتنة مطامعه، ونَبَتْ عن قبول النصائح في طلب ما ليس له

(1/72)

مسامعه، ففسح مجال آماله التي ضيَّقها القدر وصَرَمَها، وأوقد نار الفتنة على من بحضرتنا من الأولياء وأضرمها، وبذل في التضييق عليهم ذخائر الأموال، وأنفق في حصارهم أعمار الرجال، فلم يحل بطائل، ولا ظفر منها والحمد لله ببغية آمل، ووصلتنا كتب وزيرنا الحظي لدينا الشيخ الأجل الأسنى المعظم الأكمل أبي علي الحسن بن عمر أعزه الله، يستصرخ بنا ويستنجد على الأشقياء بحزبنا، فأجبنا داعيَهْ، وحمدنا في حماية حضرتنا الكريمة مساعيَه، وأعملنا إليه الركاب، وقدمنا في نصره الأسباب، ونزلنا بسريف يمنه الله بمقربة من القصر الكبير، وكان الشقي لما خامره من أمرنا الرعب، وعلم أن ما وَطِئ من هذا الأمر موطئ يغيظ المؤمنين صعب، وجَّه أخويه عيسى وطلحة إلى القصر بجمع اعتقد ولاءهم في مغالبة أمرنا ومدافعة حزبنا ليقفوا هنالك، ويسد علينا بجمعهم الوافر الطرق والمسالك، وكان مع الشقي جماعةٌ من قبيلنا أعزهم الله، دعاهم إلى الوقوف معه داعي الاضطرار، وسلمت عقائدهم من الاعتداد بأمره والاغترار، فجعلوا يتسللون إلينا لِوَاذاً، ويودُّون لو يجعلون كبيرهم الذي لا يرجعون إليه جُذاذاً، علماً منهم بضعفه عن الولاية، وأن مبدأ ملكه لا يصل إلى الغاية، ثم اتصل بهم أن أمرنا قد أُمِر، وملكنا بعد إشفائه على الخراب قد عُمِرْ، فنبذوا دعوتهم بالعراء، وشحذوا عزائمهم لنصر دولتنا الغراء، وانفضوا من حوله وإن لم يكن لأجل استيلافهم فظاً، ودانوا بطاعتنا الكريمة ومحبتنا اعتقاداً ولفظاً، وأشرقوا الحائن بريقه، وأسلموه لمن تابعه من فريقه، ففر والرعب قد ملأ فؤاده، وسعادة أمرنا العلي مالكة إن شاء الله قياده، وقصد هو وولده وثلاثة من الفرسان ميمماً إلى جبل أكان الذي فيه إن شاء الله حتفُه، ولنا الاستيلاء عليه بعناية الله، وإن رغم أنفُه. وتفرق أولياؤه فرقاً، وسلكوا في طاعتنا سُبُلاً حميدة وطرُقاً، فمنهم مقتصد وقف مع وزيرنا المعظم أبي علي الحسن بن عمر أعزه الله ليكمل عقد الطاعة، وينتظم بمحبتنا وخدمتنا في سلك الجماعة، ومنهم سابق بالخدمة لم ير الغاية إلا في الوقوف ببابنا، ولا جعل قصده إلا في اللحاق بركابنا، قد تسابقوا إلى بابنا الكريم يصلون السُّرى بالتأويب، ويهتدون من أسِنَّتِهِم وعزائِمِهم بكل شهابٍ ثاقب في كل طريق ملحوب. وأما الوزير أبو سرحان مسعود بن رحو وكان ممن نقض عرى دولته وسعى في محو كلمته، فإِنه بادر إلى خدمةٍ تزكي عمله، وتبلغه من رضانا أمله، فاعتمد أولياءنا الأقربين، وبطانتنا المظفرين، وقصد الذين بالقصر ليصادف فيهم غِرَّه، ويُذهب عن منصب الملك بمحو آثارهم معرّة، ويتَحيَّل في القبض على أخوي الشقي، ويتقرب إلينا بأثر من نصائحه جَلِي. وفي خلال ذلك اتصل بالقوم ما وقع بفاس، فارتبكوا في أمرهم، وخلوا إلى شياطين طغيانهم وكفرهم، ثم إن الله سبحانه أيقظهم للهُدَى، وهيأ لهم من أمرهم رشدا، وبصَّرهم بمواقع الطاعة فالتمسوها، وأنسوا أنوارعفْونا اللائحة فاقتبسوها، فألقَوْا يد الطَّوع والإذعان، وهداهم الله إلى استكمال عقد الإيمان، وتحقق الوزير أبو سرحان خبرهم، واقتفى أثرهم، واجتمع طريقه بالقوم الذين استعجلوا إلى حضرتنا الكريمة، فوردوا في حين واحد، وشعارهم محبتنا التي أطلعت لهم الشك يقيناً، وطاعتنا التي لم يعتقدوا إلاَّ الوفاء بها وليّاً ولم يتقلدوا غيره دَيْناً، فصرفنا إليهم وجه القبول والإقبال واضح الجبين، ورفعنا لهم راية العز والإحظاء فتلقوها باليمين، وبرزنا إليهم والنصر قد عقد علينا لواءه، وهذا اليوم الأغر قد أرانا من الفتح ما وراءه، وازدحموا على ركابنا العَلي متفيئين ظلال العدل والأمان، وبايعونا بيعة رضى ورضوان، وضربت الطبول، وخفقت البنود، وأمن الرعايا، واستبشرت الجنود، وأنجز لنا من الله الموعود، ومن الله سبحانه نستوهب نصراً يردف هذا الفتح بمثله، وتأييداً يغني المقاتل عن هَزّة رمحه وسلِّه نصله. وسيق الذين بالقصر إلى محلنا الكريم يعثرون في لباس الذل والهُون ويرتعون حول حمىً من المنون، فأعطوا الطاعة عن يد وهم صاغرون، كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون، فَرَدَّدْنَا النظر وعلمنا أن الكريم يعفو إذا قَدَرْ، وقلنا إن عاقبنا فالعذر أجلى وأوضح وإن عفونا فالسجايا أندى وأسْجَح؛ لكننا إلى الأدنى من الله أجنح. فأوسعناهم عفواً وأوردناهم من

(1/73)

أمواج حلمنا صفواً، وسكَّنا بالصفح روعهم، وأذهبنا بالوعد الجميل خوفهم وجزعهم، وبعثنا أخوي الشقي صحبة القائد الأنصح الأثير المرعى قاسم بن أبي بكر بن بنج إلى عدوتكم المحروسة ليقر لهم فيها القرار وتطمئن بهم بحسب عفونا في جواركم الدار، ورحلنا صبيحة يومنا قافلين إلى الحضرة الكريمة مستعينين بالله في تتميم دعوتنا العلية، ونزلنا بهذا المنزل فوصلتنا أخبار وزيرنا المعظم أبي علي الحسن بن عمر أعزه الله، وأنه آخذ جهده في الخدمة ومتمسك بأمور الطاعة المهمة، وإنه وجه إلينا المال وآلات السلطان جميعاً وهم واصلون على الأثر بعد أن كانت كتبه وصلتنا أمس التاريخ، يستحث ركابنا، ويوصل بالحضرة أنسابنا ويقر من طاعتنا بالواجب، ويسلك في الخدمة والمحبة أسنى المذاهب، ونحن لا نزال نبرم عقد مودتكم وإن كانت الحال دعتكم إلى نقضه، ونعلم وضوح عذركم فيما فرط من الإخلال بفرضه، فنوافي لديكم سار أنبائنا تقريراً للمناصحة التي خلصت سراً وعلناً، والمحبة التي أنبتها الله من حَبَّة القلب نباتاً حسناً، والمشايعة التي نعتقدها شريعة ونتمسك بها سنناً، والمعاهدة التي تنيلكم في جهاد أهل الكفر أملاً، والمؤازرة التي تطلع لكم من آفاق دولتنا الكريمة شُهُبَ النصر قواضباً وأَسَلاً، ورعياً لما بين أسلافنا رضوان الله عليهم من الوصلة التي أسَّس مبانيها الجِوار، والمودة التي حَسُنَت في غاياتها ومبادئها الآثار، وتجديداً لذلك العهد، ولإن تقادم أمدُه، وتأكيداً لحُكْمِهِ الذي عظم بالمؤازرة مددُه. ولما بيننا من المواصلة في السر والجهر، وعندنا من المساهمة لكم في الحلي والمر، أعلمناكم بهذه الأخبار، وأفصحنا لكم عن جميل الاعتذار عملاً على شاكلة المساهمة، وحفظ المودة التي لم تزل على أصولها قائمة، ودفعاً لما عساه يلحقكم من الخجل في ذلك، وسلوكاً من مراعاة ودكم على أجمل المسالك وسيتضح لكم عند وصولنا إلى الحضرة الكريمة شواهد هذا الدليل، ويظهر ما أضمرناه لكم من الوعد الجميل، فثقوا بذلك وأفسحوا في جهاد أهل الكفر مجال آمالكم، والله يضاعف لكم التأييد والنصر، ويطلع لدولتكم الزمن النضر، ويضاعف لكم الاقتدار ويجري في مساعدة أمركم الأقدار، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

(1/74)

كتب في يوم الأحد العاشر لشعبان المكرم من عام ستين وسبعمائة، عرف الله خيره وبركته وهو المستعان وكتب في التاريخ المؤرخ به.
وصدرت المراجعة بما نصه:

(1/75)

المقام الذي عالج زمانة الزمن فشفى، وضمن له عزيم القدر بلوغ الأمل وإحراز الوطر فوفى، وانسدل بأيالته على الأمة لباس الوقاية والعصمة فضفى، واستظهر للدهر بعقوده، طالباً بالحق إرث آبائه وجدوده، فوقع عليها قاضي القضاء: استقل بالواجب واكتفى مقام محل أخينا الذي ثَغْرُ الدهر لما استحقه من عزة الأمر بَرودٌ شنيب، وقبة الفخر قد أحكم منها على مجده العدّ وفضله الغمر تطنيب، ومركب العزة القعساء لخدمته في الإصباح والإمساء جنيب، ولسان الثناء على حلمه ودينه يتلو على الأشهاد من إن إبراهيم لحليم أواه منيب. السلطان الكذا بن السلطان الكذا بن السلطان الكذا أبقاه الله تضرب بصدق عَزْمته الأمثال، كما ارتفع بحجة دعوته الإشكال، فمهما طمحت نفسه النفيسة إلى غرض بعيد، قرب منه المنال، وطأطأت أعناقها الآمال، ونجحت الأعمال، وأهطعت الغاية التي لا تنال. سلام كريم بر عميم يخص مقامكم الأعلى وأخوتكم الفضلى ورحمة الله وبركاته. مُعَظِّم مقداركم الكبير، الموجب لأخوتكم الكريمة مزية التوقير، المثني على فضلكم المبين، ودينكم المتين، وحسبكم الشهير الأمير عبد الله محمد بن أمير المسلمين أبي الحجاج بن أمير المسلمين أبي الوليد بن نصر. أما بعد حمد الله مُدَبِّر الوجود الذي بيده مقاليده، الملك الحق الذي ثبت ببديهة العقل توحيده، جبار السموات والأرض، فالأمر أمره والعبيد عبيده، جاعل الشكر مفتاح المزيد من نعمه، فهو كما وعد يُحسب الشاكر ويزيده، فمن استعان به في المهمات أعانه وأنجده تأييده، ومن توكل عليه في الملمات ساعده ما يريده، ومن تذلل لعظمته اشرأب بالعز جيده، والصلاة على سيدنا ومولانا محمد رسوله صاحب الفخر العالي مشيده، والحمد المتوالي في الذكر الحكيم ترديده، والفخر الذي لا يطال سمكه ولا يخلق جديده، هادي الأنام الذي استبان بطاعته شقي الخلق وسعيده، فأصبح الباطل وسيف الحق يبيده، وغدا عقد الإيمان لا ينقض مبرمه ولا يحل شديده، والرضا عن آله وصحبه الذين نصروه في حياته بالعزائم الصادقة ويوم الروع لا ينادي وليده، وحفظوه في أُمَّتِه بالاهتداء الذي بان فضله وظهر تسديده، وكانوا في سماء ملته كالنجوم المشرقة لمن يبتغي الخير ويستفيده. فإنا كتبناه إليكم كتب الله لكم سعداً يطوي المراحل فيشبه الغيث يؤم البلد الماحل بريدُه، ونصراً يُقصر على تمهيد الأرجاء وعلى الجهاد الذي هو مطمح الأمل الديني والرجاء عدته وعديده، حتى يزين عِطفَ المثقف انثناؤه وخَدَّ المهنّد توريدُه، ويقوم خطيب الحسام مُكبراً بالفتوحات الجسام، فيقال هذا اليوم عيده، وهناكم الملك الذي ذخر لنظم مآثركم طويله ومديده، فإذا تذوكرت الأملاك وانتظمت من الفخر الأسلاك، فسيفكم سفَّاحه ورأيكم رشيده، من حمراء غرناطة حرسها الله، وساجعُ شكر الله يملي الأفواه وقد طاب بدوحة الصنع الجميل تغريده، والمسئول في صلة عوائد فضله من يُبدئ الخلق ويعيده، وإلى هذا هناكم الله ما خوَّلكم، وبلغكم من فضله أملكم، فإننا - من لدن انبعث عزمكم، على طلب حقكم، وقد تأذن الله لكم في استخلاصه، ومطاردة أملكم الذي أجلى الركض الحثيث عن اقتناصه، ونبهكم القدر، والحظ المبتدر، والسعد الذي راقت منه الغرر، لسرٍّ من القبول خَبَأهُ سبحانه وحَجَبَهُ، واعتِنَاءٍ حتَّمه وأوجَبَهُ، فسَهُل الصعب، وهانَ الخطر، وانقاد الوطن وتأتى الوطر، وبرز إلى الوجود ما تضمنه اللوح المستطر لم نزل نسأل الله لكم حسن العقبى، ونجح المآل، ونتشوَّف إلى ما تربَّد من قبلكم من الأحوال، ونتلقى ما يَرِدُ من أنبائكم المعربة عن سمو القَدْر، والسعادة المشرقة البَدْر، بانشراح الصدر، إذ لم تُوسِعُ الأحوال المتعارفة عندنا زيادة على هذا القدر، إلى أن طلع علينا كتابكم الأسنى، متحفاً بثمرة السعد طيبه المجنى، وقد تأسس منه على الوفار وكرم العهد المبنى، وتطابق منه في الفضل اللفظ والمعنى. أطلعتمونا طليع الأنباء التي يَحُومُ التشوف حول حماها، وتتزاحم أنساب الشفقة على منتهاها، وتشرع الأفكار إلى فك معماها، وإنكم ما زلتم ترفلون في لطائف صنع الله براً وبحراً، وتتوسدون كنف الرفق والعناية نحراً وسحراً، إلى أن نقلكم من صرير الفُلك إلى سرير الملك، من يُجنى ثمرة الحياة الطيبة من شجر الهُلك، ويشقّ عن أزهار الأنوار كمائم الظلم الحُلك، فتأرَّجَت نواسِمُ

(1/76)

القبول من مهبها، وأشرقت الأرض بنور ربِّها، وتذاكرتِ الرعايا صنائع والدكم المقدس فَرَعَتْهَا، وأنصتت إلى دعوة الحق فوعتها، وأقام الله لكم بدار الملك وهو الأصل، والرياس الذي يُمْسَكُ منه النَّصل، مَنْ حَمَى الحوزة، وأحيا العزامة، وبذل في حفظها عليكم الجزالة والصرامة، بما يستوجب به هو وعقبُهُ منكم الحظوة والكرامة، فلم تُجْدِ معه الحيل ولا أغنى الحصر، حتى نزل بإِصراخِكم النصر، وسعد بدعوتكم العصر وارتاح إلى مُحياكم القصر. ووردت عليكم الوفود تجر ذيول الأسَلْ، وتستشعر النشاط من بعد الكسل، وتراجع الوفاء المعهود، وتتذكر الحقوق السالفة والعُهُود، وأنكم حثثتم السَّير إلى الحضرة التي فارقتكم مطالعها هلالاً، فعدتم إليها بدراً، وارتاحت إلى لقائكم على مر الأيام، وقد جعل الله لكل شيء قدراً، وإن وزيركم الأوفى شكر الله وفاءه وجعل معروف اعتقادكم الجميل كفاءه، وجَّه آلات الملك التي بها يستظهر الأمر العزيز، ويكون بها على المدينة التبريز، وقررتم ما سلكتم فيمن أظفر الله به أمركم وسعى بالقدرة عليه صدركم من عفوٍ عن دمٍ، ورعي ذِمَمٍ، وإيثار عادة وفضلٍ موروث وكرم. فاستوفينا ما قررتم من مقاصِدَ نظمت البلاغة شذورُها، وجَلَت ظُلُم الحبر نجومُها العواتِم وبدورُها، وحضر بين يدينا خديمكم فلان فزاد الخبر لأجل المعاينة إيضاحاً، وأفاد شرح الجزيئاتِ الصدرَ انشراحاً، فقابلنا نعم الله عليكم بشكره وحمده، وسألناكم مزيد فضله بكل نِعْمَةٍ من عنده، وقُلنا الذخر الثمين انتظم في عقده، والحسام الماضي عاد إلى غمده، والفرع الكريم استقل بمنبت أبيه وجده، وما يفتح الله للناس من رحمة فلا مُمسك لها وما يُمْسِكْ فلا مُرْسِلَ له من بعده. ثم ثنينا العنان إلى شكر مجدكم الذي لا ينكر حقه، ولا تلتبسُ في الأصالة طُرقه، فالجواد لا ينكر سبقُه، والغيث يدل عليه برقُه. وعلمنا بما قررتم من استشعار العفة عمن قصدكم من الناس، وخفض جناح الإيناس، استقامةً للأمن إن شاء الله على أوثق الأساس، وسلامة الصدر وذهاب الباس، وسررنا - والله العليم بالضمائر - بما سَنَّى الله لكم سروراً ننازعكم فيه فضل اللباس وفضلة الكاس، فإن إيصال الحقوق إلى أهليها، وكَوْنَ رتب الآباء تستقر في الأحقِّ بها من بنيها مما جُبلت النفوس على استحبابه وإيثاره، ويجده كل قلب وفق اختياره، فكيف إذا عَضد ذلك وُد مُتوارث عن السلف، محفوظ بدرُه عن الكَلَف، فنحن نهنيكم والهنا شامل، ونؤمل لكم المزيد والله لا يخيب لديه آمل، ونسأله أن يسعدكم بما صار لكم ويجعل في طاعته عملكم، ويكتبكم فيمن شكر آلاءه ونعمه، وذكر فضله وكرمه، والسلام.

(1/77)

وبادر الوزير الثابت القدم بدار الملك بَعْث الأعلام، والخلع الملكية والمراكب الثقيلة الحلِية، والآلات التي باستعمالها تمام الأبهة بعد أن بدا له في الاستمساك، وشرع في ضم مرافق المحلَّة، واستخلف الكثير من الزاد، واكتسح البلد والمحلة لولا أنه أسلمه المنجد ورابه من أوليائه الأمر، وبادر إليه الأمير القاصد قبل إفاقته من هوله وابتلاع ريقه، فبعث رسولَه الشريفَ الثبت في الجُلَّى الدامغ الحجة العظمى. فما كان إلا أن أوصله إلى نفسه يوهمه الخلوة به، فجهر بالرسالة وقرأ على الناس الصكّ وأخل بالمصاف. وقاده إلى غرضه بعد التوثق له، فخرج الولد في طُوَيْفَةٍ من الأخوة والخدام بعد أن اقتضى له من عمه الدائل العهد بحفظه وتبينه فأخفر عما قريب عهد الله فيه.
وفي يوم الخميس الخامس من الشهر شهر شعبان، برز الوزير وقضى حقه وكر بين يديه مقيماً رسم الوزارة، مسجلاً له بالكرامة، فدخل البلد واستقر منه بدار أبيه وجده وأريكه إرثه، بعد انبتات السبب، وبُعد المحلة وإقصاؤ الأمل وعجز الحيلة وإعواز المال والعدة، سبحان ذي الملك الحق والقدرة لا إله إلا هو جل شأنه وعز سلطانه. وخاطب السلطان صاحب الأندلس أيضاً بما نصه:

(1/78)

من عبد الله المستعين بالله إبراهيم أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين بن مولانا أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين أبي الحسن بن مولانا أميرالمسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين أبي سعيد بن مولانا أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق، أعلى الله كلمته وزين باقتبال البشائر دولته، إلى محل أخينا الذي رسخت في صدق الإخاء قدمه، وأعربت عن خلوص الولا والسنا مناقبه السنيهُ وشِيَمُه، وظهر في كل شِعْبٍ مَن طرق المودة علَمُه وطبعت على مُصافاتنا هممه، السلطان الكذا الكذا ابن السلطان الكذا الكذا ابن السلطان الكذا الكذا، وصل الله لمجده سعداً تستنير أضواؤه، وسعياً يخفق بالنجح لواؤه، سلامٌ كريمٌ يخص أخوتكم الرفيعة الجناب ورحمة الله وبركاته. أما بعدَ حَمد الله الذي يؤتي الملك من يشاء فلا يُرَدُّ حكمه ولا يرام، ويعز من يشاء فلا يُزال سلطانه ولا يُضام، القادر على ما يشاء فله الحل والإبرام، والنقضُ والإحكام، الذي جعل الخلافة حَرَماً آمناً تجافاه الظلم والإظلام، وألف بين قلوب المؤمنين فكمل الاتفاق وحصل الالتئام، ووعد من استعان به وتمسك بسببه بالنصر الذي تخفق به الأعلام، والفَتح الذي تُطلعه من آفاق التأييد الأيام، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد الذي له الاصطفاء والإكرام والحوض والشفاعة والمقام، الذي رحم بابتعاثه الأنام، ودعا إلى الله على بصيرة فاستقر الإيمان والإسلام، واقتعد بهدايته الغارب والسنام، وعلى آله وصحبه الذين هم البررة الأعلام، ولهم المضاء في نصر دينه والاعتزام، والجلاد والجدال اللذان تم بهما أمر ملته السمحة وانعقدت لها الأحكام، وصلة الدعاء لهذا الأمر العَليِّ المؤيد الكريم الإِمامي المظفر المطاع السلطاني الإِبراهيمي المستعيني بالمصر الذي لعقده الوثوق والإحكام، والفتوحات التي لها في سلك دولته الاتساق والانتظام، فإِنا كتبناه إليكم كتب الله لكم سعداً لا يفارق الدوام، وعزاً لا ينفصل منه متصل ولا ينقص منه تمام، من حضرتنا العلية المدينة البيضاء مَهَّدَها الله تعالى وخلَّدها، وقد صدَّق الله تعالى أمل الإسلام فينا، وحقق اقتداءنا بأسلافنا الكرام رضوان الله عليهم في إحراز ملكهم الشامخ وتأسّينا، وزُهِي بنا منبر الخلافة وسريرها، وجرت بنظرنا الصالح وتدبيرنا الناجح أمورها، وأعطانا الملك صفقة الرضا والقبول، واستبشرنا بمحبة الله التي قام عليها من محبة الناس أوضح دليل، والحمد لله على ذلك حمداً يصل النعم بمثلها، ويوجب المزيد لمُسْتَمْنَحِهَا بالشكر ومُسْتَجْرٍ لها، وَوُدكم من ثوابت الغِيَر سليم، والحب كما تعلمونه ثابت صميم، واهتمامنا بمناصرتكم وَثِقُ العقود وإيثارنا لمعاضدتكم محفوظ العهد، والله يصل ذلكم لوجهه كفيلاً برضاه، وافياً بزيادته وحسناه، وإلى هذا وصل الله سعودكم ووالى تأييدكم، فإنا كنا قدّمنا لجلالكم التعريف بما سنّاه الله تعالى من محو آثار الفجرة الأشقياء، الذين بَغوا الفسادَ في الأرض بعصيان ربِّ السماءِ، وفسحوا مجال الأطماح في إحراز الملك الشامخ البناء، واحتالوا بالتضييق على حضرتنا ليغتالوا، وهمُّوا في كيد أمرنا العلى فلم ينالوا، ولما تيقنوا أن الله سبحانه أعلى بالخلافة وإظهار الدعوة يدَنا، وصدع قلوبهم الرعبُ الذي سبق بين يدينا وتقدَّمَنا، فَشُتَّ شمل ضلالهم، وانصرمت حبال آمالهم، وانفض من حولهم الأولياء الذين أكرهوا وقلوبهم مُطمئنة بالطاعة، وسلمت عقودُ ضمانهم من أن ينفث فيها مخالفة الجماعة، وانصرفوا عنه يهتدون بلائح أنوارنا، وَيعْشونَ إلى ضوء نارنا، فشرحنا صدورهم بالوعد الجميل، وفسحنا لهم مجال التأميل، وقفلنا إلى حضرتنا الكريمة والنصرُ قد ألقى إلينا مقاليد البلاد، والتأييدُ قاد لنا طلائع الفتح مشرفة الهواد، والتمكين قد أقر جنوب السيوف في مضاجع الأغماد، ولما وقع الحق بإظهار هذه الدعوة الواضحة السناء، وبطل ما كانوا يعملون في التضييق على من كان بها من الأولياء، وعصم الله سبحانه حضرتنا العليَّة من أن يجيش صدرُها بِجَمْعهم الذَّميم، أو يعْلَق كفُّنا منهم بالحبل الرَّميم، ونأت بجانبها عن دواعيهم، واستصعبت على عزائمهم ومساعيهم، بادر وزيرنا الحظي لدينا الشيخ الأجل الأعز الأسنى الأرفع الأخلص الأكمل أبو علي

(1/79)

الحسن بن عمر، أعزه الله تعالى إلى تقديم الأسباب الواجبة لركابنا العلي عند الاقتراب والإعلان، بما كان يسره خشية منهم من الطوع والإذعان، فعلمنا بما ظهر من مبادئ النصائح صدق ضميره في المصائر، واستقبلنا الفتح يرفل في ذيول البشائر، بعد أن كانت كتبه تناجينا بلسان خلوصه على بعد الدار، وتستحث ركابنا العلى راغبة في القدوم على حضرتنا والبدار فطوينا المراحل إليها، واستعنا بالله في تكميل ما رمناه لديها، وقد ازدهت بعسكرنا المظفر الوهاد، وسالت بأعناق المطى الأغوار والأنجاد، وتباهت بالانتظام في سلك طاعتنا البلاد، وحين طلعنا على حضرتنا العلية من آفاقها، وابتهجت النفوس بانتظام المسرات واتساقها، وجمع الله كلمة المسلمين بعد افتراقها، خرج إلى لقائنا محل ولدنا الأسعد الأرشد أبو بكر السعيد بن أخينا المرحوم أبي عنان رحمه الله والشوق قد بعثه على المسارعة إلى ركابنا، ونور الهداية قد أوضح له التمسك بعلى جنابنا، فوصل إلى بساطنا الأشرف يبرأ من تدبير الأمور ويلتمس منا الانفراد بنفسه على الجمهور وألقى مقاليد أمره إلينا، وعول في النظر له وللمسلمين علينا، وخرج بعده وزيرنا أعزه الله تعالى بعد أن قدم أسباباً ظاهرة من النصائح، أنتجت له العلا في بابنا والظهور، وتَجَرَ في حماية حضرتنا والقيام بدعوتنا تجارة لن تبور، وتمسك بمقامنا الكريم الذي يمهد له مراتب العز ويوطدها، ويثبت له أحكام الحظوة والمكانة ويؤكدها، ودخل بين يدينا إلى حضرتنا العلية وقد أشرق السعد في جنباتها واتضح، واتسع مجال الآمال في دولتنا الكريمة وانفسح، واستوينا على سرير ملكها، وانتظمت الفتوحات في سلكها، وتمت كلمة المؤمنين، وأعز الله باستقرار ملكنا وثبوته الدين، والحمد لله على هذه النعمة التي أعجزت عن القيام بشكرها، وانتشرت المسرات المتصلة في نشرها، أعلمناكم بذلك جرياً على حكم المودة التي أُسسَ بنيانها، وتساوى إسرارها وإعلانها، ولما بين أسلافنا رضوان الله عليهم من الوصلة الحميدة الآثار، والمحبة التي أكدها قرب الجوار، ولتعلموا أنا والحمد لله قد أعطانا النصر قياده، وفسح لنا الملك آماده، وأملنَا بحول الله تعالى أن يبلغ الإسلام مُرَادَه، ويجري في ميدان الجهاد جهاده، والله سبحانه وَلِيُّنَا المستعان، وبه اعتصامنا في كل أمر وشأن. وقد أوفدنا عليكم بخطابنا فلاناً وهو يقرر ما عندنا لكم من حسن المودة والمناصرة وجميل المعاضدة والمؤازرة. والله سبحانه يحرس ودادكم، ويفسح في جهاد أهل الكفر آمادكم. والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. وكتب في اليوم السابع عشر لشعبان المكرم عام ستين وسبعمائة. عرف الله خيره وبركته وكتب في التاريخ المؤرخ به. ووصل صحبة هذا الكتاب قوم من نبهاء الخدام تكفلوا بإِيصال العيال المتخلف بغرناطة، وشرعوا في الاستعداد والاستظهار بما حَملهم من زينه.

(1/80)

وقعد لهم السلطان بالأندلس قعوداً فخماً بقبة قصره، وتضمن الكتاب المذكور مدرجاً بما آلت إليه حال منصور بن سليمان طريده نصه: وصل الله لولائكم الرضى سمو المكانة والعلاء، ووالى في ذاته حراسة ذلكم الإخاء، مما تعلمكم به ونصل لكمالكم وَصْلَ المسرات بحسب الاعتقاد الجميل سببه هو أنه بعد ختم خطابكم الواصل هذا طيُّه إن شاء الله، ورد علينا التعريف من حفَدةِ ولي الله تعالى الإمام الكبير العارف الشهير أبي يعقوب البادسي رضي الله عنه وأدام رعايتهم، بأن الحائن الغادر الخائب الخاسر منصور بن سليمان الذي تعرض لما جهل بالتعرض له قدره، وأراهُ عاقبة غدره، وأحاق به مكره، وصل إلى بادس هو وولده ومعهما عطية بن نرْزدَع من أشياخ جبال غمارة المخالفين على طول السنين، طالبين لنجاتهم التي لم يجدوا إليها من سبيل، ولا عَدموا بمرامها الأخذَ الوبيل، فَقَبض على ثلاثَتِهِم خديمُنا الأثير المرعي عبد الله بن عسكر مع رُماة البلد، وتحصَّل جميعهُم في قبضة الثقاف، فبعثنا في الحين من يأتي بهم إلى بابنا العَلي أسماهُ الله ليذوقوا وبال أمرهم، ويجتنوا ثمرة غدرهم، ومن العجب أن عطية المذكور لم يُقدر عليه قط في حال امتناعه بحبله ولياذه بحيله، ولما أراد الله أخذه، بعث إليه الحائن الذي أتته به رجلاه، ورماهُ من شؤمه بما رماه، فأمكن الله منهم أجمعين وقُطِع دابرُ القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين نسأله سبحانه أن يوزعنا شكر نعمائه، ويؤدي عنا حقوق آلائه والسلام معادٌ عليكم ورحمة الله.
وصدرت المراجعة عن ذلك بما نصه:

(1/81)

المقام الأسنى الذي أحسن الله له العقبى وأعقب له الحسنى، وبلغه من فضله ما تمنى، وجعله مثابة للناس وأمناً، هو مقام إبراهيم لفظاً ومعنى، مقام محل أخينا الذي جدد البيت الكريم ورفع أركانه، واستحق النصر العزيز فعين زمانه ومكانه، ونبهه القَدَرُ والحظُ المُبتدر فملأ أوطاره وتملك أوطانه، واستظهر للدهر بعقوده، طالباً إرث آبائه وجدوده، فحاز تراثه واسترد سلطانه، السلطان الكذا بن السلطان الكذا ابن السلطان الكذا بن السلطان الكذا أبقاه الله مُنشرحة بسلطانه الصدور، مُستمدة من نور سعادته البدور مُشَمِّراً لتتميم مآربه، وإيضاح مذاهبه، القدور المقدور، مقروناً بعزماته الظهور، متنافسة في تخليد مآثره الأيام والشهور، رافعاً رواق العصمة عدله المشهور، ضاحكاً في اليوم العبوس عَلَمه المنصور، معظم قدره وملتزم بِرّه المسرور، بما سناه الله من إجلال قدره، وإعزاز نصره، فلان، سلامٌ كريمٌ طيب بَرٌّ عميم يخصُّ مقامكم الأعلى وأخوتكم الفضلى، ورحمة الله وبركاته. أما بعد حمد الله الفتاح العليم، محيي ثمرة الأماني القاصية، والامال المتعاصية، من شجرات الرضا والتسليم، ومطلع أنوار الظفر بالأوطار، في ظلمات الأخطار، لأولي العزم من خُلفائه الأبرار، وذاخر منحة الفوز بما لديه، من أوليائه الكرام عليه، لمن أتاهُ بقلبٍ سليم، الذي جدَّدَ للمِلَّةِ ملابسَ عزها رائقة التَّسْهيم، وجلا عنها بنور السعادة غياهب الليل البهيم، ونَفَخَ منها روح الحياة في العظم الرميم، الملك الحق الذي إذا أعطى لم يُفِد لَدَدُ الخصم ولا مماطلة الغريم، فبيده ملاكُ القبض والبسط والتأخير والتقديم، والصلاة على سيدنا ومولانا محمد نبيه المصطفى الكريم ورسوله الرؤوف بالمؤمنين الرحيم، الذي أثنى في كتابه العزيز على خُلُقِه العظيم، وأرسله بالآيات البينات والذكر الحكيم، وأخبر أنه وملائكته يصلُّون عليه وأمر بالصلاة عليه والتسليم، وبعثه إلى الناس كافة يأخذ بالحجزات عن العذاب الأليم، ويدعو على بصيرةٍ منه سبحانه إلى جنات النعيم، حتى أصبحت كلمة الله تحثُ بها جياد الأقلام في ميادين الأقاليم، وسرت في الأقطار تبين لأولي الأسماع والأبصار حدود التحليل والتحريم، والرضا عن آله وأصحابه المتميزين بأصالة المجد وكرم الخِيم، الحائزين قصب السبق في الحديث والقديم، الذين خَلَفُوه في ملته بالتكميل لمحاسنها والتتميم، ونصروه في حياته نصراً تكفل بحفظ النفوس وصون الحريم. فإِنّا كتبناه إليكم كتب الله لكم صنعاً تُتْلَى أنباؤه ما بين زمزم والحطيم، وسعداً تُغني قواطعه في الأعداء عن اختيارات النصب واعتبارات التَّنجيم، ونصراً يدونه الذابل والحسام فيقومان بوظيفتي السَّبْر والتقسيم، وبشائر تَسْرِي في الآفاق مَسْرَى النسيم، وتسفر في مطالع التعريف عن الوجه الوسيم، وتروى منها العبادُ والبلادُ تحفةَ القادم وزاد المسافر وقوتَ المقيم، من حمراء غرناطة حرسها الله، ونعم الله قد همت منها السحاب، وفتوحاته الربانية قد تفتحت منها الأبواب، والكلمة المحمدية قد اتصلت بها الأسباب، ودولة الإسلام قد عاد لها بدولتكم الشباب، وآلاء الله قد ذهلت لِمَا بَهَر منها الألباب، والظنون فيه سبحانه قد صدق منها الحساب، ولا زائد بفضل الله الذي عمت هباته، فهو الجود الوهاب، ثم ببركة سيدنا ومولانا محمد رسوله الذي أشرق من نور هدايته الشباب، إلا العز المشيد، والسعد الجديد، والجَد السعيد، واليُمن العريض المديد، والآمال التي أشرف منها الجيد، والحمد لله حمداً يتوالى منه بوسيلة الشكر المزيد، وإلى هذا عرّف الله المسلمين والإسلام عارفة سعدكم، وهنأكم ما هيأه من الصنع الجميل لمجدكم، فإِنَّا قدمنا لكم الخطاب جواباً عما أهديتم إلينا، وأوفدتم بمقتضى فضلكم العميم علينا، من إتحافكم ببواكر الفتح الأسنى، والصُّنع الوثيق المبنى، وأنكم صرفتم العزم إلى دار الملك الذي احتفلت لسعادة أمركم أوقاته، ومقر العز الذي حفظ أمانته عليكم ثقاتُه، وتشوَّف إلى تلبية مجدكم ميقاته، وارتاحت إليكم عهودُه، وحنت إلى لقائكم سروجُه ومهودُه، وسهرت لارتقابكم عُيونَه، ويسرت لاقتضائكم ديونُه، ونضدت لمجالسكم مراتبه، وعُرِضَت بين يدي جودِكم مواهبه، وجُنِبَتْ جُرده وسلاهبُه، وزينتْ ببدركم هالتُه، وخطبت لجلالتكم جلالته، وإن الملك قد استقر

(1/82)

والمنَّة لله في قراره، وربُّ الدار قد توسد أريكة داره، والوارث الأحق قد فاز بحقه، والجواد الكريم قد تميز في ميدان السعد بخصْل سبقه، وإن الطاعة قد اتسقت عقودُها وانتظمت وخلصت واستحكمت، والألسنة قد أعلنت ما كَتَمَتْ، وملة الإسلام قد رضيت وسَلَّمَتْ، وأن البلاد والعباد قد شملها الاستبشار، وحصل لها الأمل الذي إليه يشار، والقرب الذي كانت تحن إليه حنين العِشار، وظهرت آثار الاعتقاد الذي كان كامناً، وذهب بروع النفوس مقام إبراهيم الذي من دَخله كان آمناً، وغبطناكم بموقعها الأسنى، وعارفتها الحسنى، وقلنا الحمد لله الذي ردَّ حلي المُلك المجيد إلى الجيد، وقلد حُسام الخلافة عاتق البطل النَّجيد، وزيَّن المفْرقَ بالتاج، وقرن مقدمة العزم بالإنتاج، فمعاذ الله أن تجهل البلاد حق والدكم الذي كفل الرعية وكفاها، وتمم مآرب الإسلام على مَرِّ الأيام ووفاها، وأعذب الموارد وأصفاها، ومدَّ جناح العدل المنشور، والفضل المشهور، ووسم بغرر المناقب أوجه الأعوام والشهور، وكان لملوك الإسلام أباً، ولتمهيد الأقطار وتسني الآمال الجهادية والأوطار سبباً، ولدين الله ركناً وثيقاً، ولأوليائه وليّاً وصديقاً، وعلى الثغور شفيقاً، ولأَعْبَاءِ الخلافة مطيقاً، وللمناقب ديواناً، وعلى عزِّ كلمة لله عُنواناً، وللجهاد مُديماً، ولنعمة الله بالشكر مُستديماً، ولرسوم العلم والعمل مُقيماً، وللعدل والإحسان صراطاً مستقيماً، وبخصوص هذه الجزيرة الأندلسية التي جعلها ميدان أمانيه - من رضى الله - وآمالِه، وأسلف فيها ما أسلفه من أعماله، وسمح لها بنفسه وولده وماله، جزاه الله جزاء الخلفاء الصالحين والأئمة المجاهدين من أمثاله، وأبقى بركته في ولده وآله. فلو لم يدعُ إلى السرور بما سنَّاهُ الله لكم إلا هذه الوسيلة التي تسلَّم لها الوسائل، وتقوم على فضلها البراهين والدلائل، لكفت وأبَرَّت ووفت، وسحت بركتها وَوَكفت، فالفرند من النصل، والفرع من الأصل، والحب يُتَوارث كما ورد به الحديث والخبر، وشهد به الحسُّ وهو الشاهد المعتبر، وإنا لنرجو أن تُرضوه باقتفاء سَنَن جهاده في لحده، وتتمموا مقاصده في سبيل الله من بعده، فأنتم سلالةُ مجده ومنقبةُ حَمده. ورأينا أن تلك المراجعة دون الكفايَة، وقاصرة عما يجب من المبرة والحفاية، فخاطبناكم بهذا الكتاب نؤكد سرورنا بما ألبسكم الله من تلك الحلل، ونسأل لكم تمام القصد وبلوغ الأمل. فنحن الآن نبدي في هنائكم ونعيد، ونسهب القول وأين يقع مما نريد، ونروم أن يفي الكتاب بما ينطوي عليه لكم وهو المرام البعيد، وإذا كانت السَّرائر يعلمها الشاهد الرقيب، ويرتّب عليها المجازاة فهو المجازي المثيب، فحسبنا أن نكل خَفِيَّهَا إليه، وتدينه منها بما لا يخفى عليه، فالله عز وجل يهنيكم ما أولاكم من منحةٍ حافلة، وصنيعة في حُلل الكمال رافلة، ويسعد بها الأقطار، كما مَهَّد بها الأوطان ويسر الأوطار، ويجعلها في العقب بعد طول المَدَا باقية، ويُلْبِسُها عصمةً منه واقية، حتى لا يعرف شملها بعد الانتظام انتثاراً، ولا طِرْف سعدها من بعد الإحضار عثاراً، ويجعلها لنجوم عزكم مَدَاراً، ولدعوة ملككم داراً وقراراً، وعيَّنا في هذا الغرض، والقيام بواجبه الملتزم المفترض، مَن وجدنا أن ينوب عنا فيه أحمَد المناب، ويُمهِّد أفسح الجناب، ويشرح ما لا تفي به مقاصد الكتاب، وهم فلان وفلان وفلان، وفضلكم كفيل بالإصغاء لما يلقونه، والقبول على ما يؤدونه، والله يصل سعدكم ويحرس مجدكم والسلام، في كذا..

(1/83)

رَجْعُ التاريخ
وقد كان عامر بن محمد بن علي الهنتاتي، شيخ قبيل دار هجرة الإمام المهدي، وبقية رجال الكمال، الثبت الحصاة، الوقور المجلس، الوافر خلال السيادة، نافَسَ الوزير أيام نصبه الولد خلفاً من أبيه، وأنف من الانقياد في خطامه، وتمسّك بولدٍ ثانٍ كان السلطان أقامه بمراكش، فموه به ورتب له، وبُودِرَ بالجيش فاقتصر على منعته، وناصف القوم في بعض مجاولاته. فلما استقر الأمر وخَلَص الملك، روسل فأصغى وأسهل، ولحق بباب السلطان مستنيباً بمكانه أخاه عبد العزيز حامي السَّرح، وحافظ السيقة، والمُعتلق بحبل المنْعَة، فسأله لِمَا كان من نبذ موالاة هذا الأمر عند مراسلته إياه من البحر، ونِشْدَانه في صلة اليد وقد استوسقت الطاعة لمنصور بن سليمان، وقدَّر أنها صفقة لا تَحِلْ وبيعةٌ لا تنكث [لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسَّنيَ السوء].
ووجّه عن منصور بن سليمان وابنه، وقد لحقا بجبال الريف، وأخذتهما يد الاضطراب، وراما التذَمُّمَ بتربة الشيخ ولي الله تعالى أبي يعقوب، ولَبِسَا الصوف، فلم يغن ذلك عن نفسه، وأسلمه الناس فتُقبُض عليه وعلى ولده، وجيء بهما مصفودين مُرْكَبيْن على الظَّهر، نُكْس العيون، ميل الأعناق، قد بدت لهما سيئات ما اكتسبا، ومُعْقِبات ما ارتكبا من الركون إلى العهد المخفور والذمام الرث، والولي المخذول، فوقفا موقف الشَّمات، وتقذعا بالمقذع من القول، ثم دفعا إلى المنايا السود فقتلا صبراً، أُمر بعضُ رَحِمِهِمَا الواشجة فناشهما بالحراب، وتخلفا مُلوثيْن في ضحضاح من الحمأة عبرة لأولي الأبصار وسعوطاً لأنوف الاغترار إلى أن نفذ الأمر بمواراتهما فمضيا لشأنهما عفا الله عنهما، ولقد كان الشيخ منهما موسوماً بإقصار عن كثير مما نَبَزَهُ إليه أولو قُعْدُدِه مرعياً على البيت متظاهراً بالخير معروفاً بالتَّصاون، ثبت الموقف في اللقاء. وكان ولده من النبل والكيس والتفطن للأمور، ومن الحدة على ثَبَج عظيم غير سِكِّير، مع جنون الشباب، وترف النشأة وحسن الرواء. ونفذ الأمر بمثل ذلك في ذمرَيْن من صقور قبيل بني مرين، منصور بن أبي منديل، وعمر ابن الزُّبير المخصوصَيْنَ بركْبَةِ الحائن، والمعيَّنَيْنِ لرياسة الحِصص القاطعة بالأمير الدايل. قِيدَا يرسُفان في قيودهما ويعالجان جَرَّ أَدَاهِمهما إلى مصرع السوء، وفي القلوب منهما كَهَفِّ الجمر وحزِّ المدا، لمكانهما من الدفاع وشهرتهما بالمضاء. وبان يومئذٍ على منصور منهما ما زكَّى عقد الشجاعة إذ غافص أحد الوَزَعَة فانتزع منه سيفه وأهوى به إلى قاتله فأثبت بجراحة لولا أنه مَنَع القيد من نقل خَطْوِه، وجُذِبَ بمعلاقه فسقط ليَدَيْهِ وفيه، لتركها جَلْوَاء.
وأقام الوزير الحسن بن عمر رسم الوزارة الكبرى على دَيْدَنِه من التقدم والاستبداد وعدم المبالاة بمن دونه، فأخذته الأَلاقيُّ وتعاورته السعايات، وخَوَّفَ السلطانَ منه أولو الدالَّةِ، ودست الدسائس حتى بألسنة الحُرَم. فاقتَضى النظر صَرْفَه عن السُدَّة والاستظهار به على المهم من الخدمة، فعُقد له على مَرَّاكُش وأحوازها، وأُتبع الجيش وأقطع العز وسُوِّغ المال، فانصرف لها يجر الدنيا وراءه، فاستقر بها أَمْلك بصقعها فأمَّن السُّبُل ودَوَّخَ الجهات واستخلص ما رسب من الجباية، وحسنت منه المناصحة.

(1/84)

ودالت الدولة بالأندلس في أثناء هذه الأحداث، وكان ما تقدم الإلماع به من الوثوب بها بالسلطان وتطريق النكبة لنا أولِي خَالِصَتِه، فمن بين ناج وشاجب، حسبما ثَبَت في موضعه من صدر هذا الديوان. واستمرت أيام الوزير المذكور بمراكش، وهو على الوصف مستوحشاً من نداء يقع من السلطان في أمره، أو غصص بمكانه، ولم يرشده الله إلى النظر لنفسه ولا يَسَّرَ عليه سبب الحيلة في خلاص مهجته، وتلك عادته جل وعلا فيمن ذهل عن حقه، وتبرأ إلى حول المخلوقين من حوله، وانغمس في سموم الأمور والسياسة بتقصير عقله. وروسل في إسلام بعض الخدام ممن أغرى به السلطان، وقلد لديه طوق عظمى الجناية وولي كِبْرَ الأحدوثة، فأجاره بقوة شكيمته وعظيم طماحه، ففتح باب الإغراء بنفسه، واستعجل التَبَار بسوء تدبيره، وجرت بينه وبين السلطان مراسلة بطن فيها من كياده والتمريض في أمره والمصانعة ما توهم أنه يحتج به من تسويغ انصرافه عنه إلى طِيَّتِه وإباحة رحيله عن إيالته، وآثر الامتناع بجبل بني جابر وقد طوق عميدهم يد الانتياش من الهلكة، وصيره طليقه، ليقرضه في الشدة ويكافيه في المعضلة، فضمن له ما ركنت إليه نفسه ولحق معه بجَبَلِه، ولما باح السر وتحقق من خروجه عن مراكش النبأ، جهز السلطان إليه الجيش لنظر وزيره الحسن بن يوسف الخيري بعد إزاحة علله وإطلاق يد اختياره. ولحق به مجرى القوم على رسمهم من خذلان المغرور بهم من كان، والمستبصر في الثقة بدفاعهم عنه. ولم يزل يركب الشاهق طَبَقاً عن طبق والجيش يشمر أذياله ويستأصل عدته حتى فُضَّ مَصَافُه وتُمُلِّكَ حريمه وانتُهب ماله وغلت ذخيرته، وارتقى إلى مسجد بذروة الجبل منبع الحوزة، صونع عليه أشراف ذلك القبيل فباعوا ذمته بدنانير، واقتادوه فأسلموه إلى يد طالبه. وورد الخبر بالقبض عليه واقتلاع ثُؤْلُولِه، فانكفأ أعلى القصر على أسفله استبشاراً ولم تمض إلا أيام، وجلس السلطان إلى وروده ببرج المُّصارة، وقد حُشر الناس عقب صلاة الجمعة، ونظم طائفتُه العتاة الوهق، ودارت أطواق القِد على أعناقهم، قد نهكهم الضرُّ، وغيَّر وجوههم بعد الترف الجُهد، ومثل بهم العرى وأركب الوزير جملاً ظالعاً بيِّن الظَّلَع هزيلاً كان بأحواز الحضرة سائبة، بعد أن ألبس جبة من الصوف التي يتخذها الساسة والملاحون، حاسر الرأس قد تصببت عرقاً في موقف الهول ومرقب الشهرة وهيضة المثلة. وأُمر بتأدية حق الخلافة فأوْمي لثقل الكُبول وتشاغله بالامتساك على السِّنام، وقد أُوعز إلى أعدائه باقتضاء ما أسلفهم من الإهانة وأُغْرِيَ به السَّبابون وأولو المهاترة وأذيال الباطل، فنالوا منه ومن زوجه سُونة زوج الوزراء قبله، ما المسئول من الله أن يخفف به حسابه ويجعله كَفَّارة لبعض ذُنوبه فهو الغني ذو الرحمة، ثم نقل إلى السلطان وقد تحول إلى مجلس القصر وكرسي الملك، وقام ابن عمه الوزير بعده يتقرَّعه والحاضرون يَجْبَهُونَه وهو غير ملتفت إليهم رابط الجأش رطب اللسان، صادعٌ بالحجة، قرر السلطانَ على حسن بلائه عنده، وضبْطِ البلد عن عدوه حتى قصده هو ومَلَكَه، ونسب الفرار إلى امتثال أمره والانتباذ إلى تسويغ رقعته. ولما استوفى ما لديه أُمر بتَلِّه فسحب بالكُبول على وجهه، وتطرقت الأيدي لسِمْطِ كريمته، وسُجن ببعض دور الثقاف إلى أن أنفذ فيه لأيام ما حَتَّمَتْه مشيئةُ ربه، فقيد إلى المصرع المعروف بباب السَّبع. )وأضحت رماح بني أبيه تنوشه(. فقضى على هذه السبيل وجُرَّ شِلْوُه فصلب بباب المحروق، ثم أرجل وأُمر أهلَه بمواراته. واسْحَنْفَرَ الناس في إطراء السلطان بهذا الصنع وتشادق الخطباء وتكلم الشعراء، حتى لقد وقف بين يدي السلطان صاحبنا الشيخ المدعو بالشريف ابن راجح، مَقدمه من الأندلس منتاباً، ورفع عقيرته يقول: [تَبَّت يدا أبي لهب وتب، ما أغنى عنه ماله وما كسب، سيصلى ناراً ذات لهب، وامرأته حمالة الحطب، في جيدها حبل من مسد] ، يشير إليه وإلى امرأته بسبابته في مقطع كل كلمة. فكان من تقدير السلطان أبي عبد الله بن نصر أن قال: كنت أنتظر أن يقول عند ذكر قوله وامرأته سونه، ويقحم ذلك في الآية إبلاغاً في إنكار هذا الأَغْبَا. والله يجعلنا من الدهر وأهله تحت تقية وحذر ةيقيناً مصارع السوء ويضفي علينا جلابيب الستر. وأنشدت السلطان في ذلك طوع اقتضائه قولي:

(1/85)

أيَغلِبُ مَن عاداكَ والله غالِبُه ... ويُفلِتُ مَن ناواكَ والسيفُ طالبُه
ويَخْلُصُ مَن في راحَتَيكَ زِمامُهُ ... فَسيبُكَ كاسيه وسيفُك سالبه
كَسَباً بعِداكَ الجدُّ لما تنكبوا ... رضاك وطِرْفُ البغيِ يُصرعُ راكِبُه
فيا ذُلّ من عاداك يا مَلِكَ الوَرَى ... وخابت أمانيه وساءت عواقبه
يُسَالِمُ من سالمت دهرُك مثل ما ... يُدَافِعُ من عاديته ويحاربه
ولله في علياك سرٌ محجبٌ ... تلوح بعز المسلمين كواكبه
أبا سالمٍ دينُ الإله بك اعتَلى ... وأُيِّدَ ركنٌ منه واعتزَّ جانبه
دعا بابُكَ الأعلى الفتوح فأقبلت ... أيَمْنَعُ حظاً والمهيمن واهبه
أجَرْتَ وآويتَ الغريبَ وإنها ... سجيَّةُ من عزَّتْ وطابت مناسبه
وأضمرت يا مولَى الأئمةِ نصره ... فملكُكَ بالنَّصرِ استقلَّتْ ركائبه
ومَنْ عَلِم الرحمان نيَّة صدقه ... أتته بألطافِ الإله عجائبُه
هنيئاً أميرَ المسلمين بنعمةٍ ... لها أثر في الدين تبدو مذاهبه
ولا زال صنعُ الله يضفو لباسُه ... على أمرك العالي وتصفو مشاربُه
وقابِل صنيعَ الله بالشكر واستَزِدْ ... من الله صُنْعاً تستهل سحائبه

(1/86)

وصرف السلطان وَكْدَه إلى اجتثاث شجرة أبيه وأن لا يَدَع مَنْ يصلح للملك ولا مَنْ يترشح للأمر، فالتقط من الصبية بين مراهق ومحتلم ومستجمع، طائفة تناهز العشرين غلماناً رُوقة من إخوانه وأبناء إخوانه، فأُركبُوا البحر إلى رنده، ومنهم ابن أخيه المسمى بالسعيد، المتصير إليه الأمر بعد أبيه، وأفلت منهم ولدان لحقاً بغرناطة فاستقرا بدار آمنة. ثم تعقب النظر فيهم فأركبهم جفناً غزوياً مُوَرِّياً بتغريبهم إلى المشرق مبعداً إياهم عن حدود أرضه، ثم طير إلى قائد الأسطول وهو أبو القاسم بن أبي بكر بن بنج، السابئ بضاعة الخِزي بعدهم، ثبتاً بأمره بتغريقهم مُنْصَرَفَه عن مَليله. فأُخرجوا ليلاً من جوف السفينة من بين أمهاتهم الثكالى بعد أن جلَّلَتهم الذلّة ومَسَّهم الضُّر وعاث في شعورهم الحيوان لطول مقامهم في البحر شهوراً عدة فأغرقوا: يركب الصبيُّ منهم زَبْنيَّ من تلك الزبانية ليخرجَه إلى البر، فإذا خاض به الغَمر وقارب الضحضاح قلبه، وأمسك أصحابُه بيديه ورجليه وغمسوا رأسه في الماء حتى تفيضَ نفسُه، إلى أن كمل منهم تسعة عشر بدور مُلكٍ وشُموس إمارة غُذُوا بالنعيم ومُهدت لهم الأرائك، لم تعلق بهم شُبهَةٌ توجب إباحة قطرة من دمائهم. حدثني مُتولي هذا المكروه بهم بِهَوْل مصرعهم فقال: لقد عَلَتْ منهم ليلتئذٍ الجثث حتى صارت هضبة، وحُفر لهم أخدودٌ هيل عليهم ترابه، كتب الله شهادَتَهم وجعل أصاغرهم فَرَطاً لآبائهم، وعنده جزاء الظالمين وهو أسرعُ الحاسبين سبحانَه. ونَفَذَ بعد ذلك أمره عند الوجهة إلى تلمسان بالإجهاز على طائفة من الأغفال بين مَشْيَخَةٍ وسواهم مُنْتَسِبين إلى يعقوب بن عبد الحق، نسبة دَلَّت عليهم الرَّدى وقادت إلى غَلاصِمِهم المُدى أُبيدوا ذبحاً ثم أُلحِقَ بالجملة بعد مُدَّةٍ ابن أخته الغالبة على أمرِه من أحد أبناء عمه، فنجي عليه ما أوجب أن أَثكلها به. ورأى أن قد خلا له الجو، إلاَّ أن همَّه بمن تحصَّل بالأندلس من بني عمه وبني أخوته نَغَّصَه المِنْحَة، وكدَّر الشرب. وفتل إلى المتغلب على الأندلس في الغارب والذروة، واستفزَّه عنهم بكل جهد وحيلة فلم يجد فيه من مَغْمز ولا عليه من مُعَوَّل، وسَتَر الله عنه أخاه المبايع له من بعده. وألقى بأزمة دولته لأول أمره إلى خطيبه وخطيب أبيه لوسيلة قديمة. ثم لِمَا أبلاهُ في جلب الملك إليه فلطفت المنزلة، وعظمت الألفة، وتمحضت الثقة، فخلطه بنفسه ولم يستأثر عنه ببثه، ولا انفرد عنه بما سوى أهله بحيث لا يقطع في شيء إلا عن رأيه، ولا يمحو ولا يُثبت إلا واقفاً عند حده، فغشيت بابه الوفود، وصُرفت إليه الوجوه، ووقفت عليه الآمال، وخَدَمته الأشراف وجُلبت إلى سُدته بضائع العقول والأموال، وهادته الملوك فلا تَحْدو الحُداة إلا إليه، ولا تُحَطُّ الرحال إلا لديه، إن حضر أجرى الرسم وأنفذ الأمر والنهي، لحظاً أو سراراً أو مكاتبة، وإن غاب ترددت الرقاع واختلفت الرسل. ثم انفرد أخيراً ببيت الخلوة ومنتبذ المناجاة، من دونه مصطفّ الوزراء وغايات الحجَّاب، فإذا انصرف تبعته الدنيا وسارت بين يديه الوزراء، ووقفت حِفَافَيْ بابه الأمراء وقد وسع الكلَّ لحظُه، وشملهم بحسب الرتب والأحوال رعيُه، وانسحب عليهم وعقدت ببنان عليتهم بنانه، لكنّ رضى الناس غاية لا تدرك والحسد بين بني آدم قديم، وقبيل الملك مباين لمثله بكل اعتبار، فطويت الجوانح منه على سِل، وحنيت الضلوع على بث، وبحسب ما بث الله جل جلاله من أَسْر نيات الخلق إليه، وتعطشهم إلى لقائه، ورغبتهم في إنهاضه إلى ملك أبيه، كان انقلابهم إلى ضد هذه الحال شَرَقاً بأيامه، وإحصاء لقطاته، وولوعاً باغتيابه، وتربصاً للمكروه به إذ خابت فيه آمال الآملين، وحبطت أعمال العاملين، فكان من آزره على أمره، وصَحِبَهُ في التماس ملكه أو رَفَعَهُ على كاهله، أو اقتحم الخطر من أجله هو الغُفْل من سِيما حُظوته أو المخصوص بهجرانه وَمَقْلِيَتِهِ أو المطرود عن سُدَّته. وكل ما أصدر من أمر أثناء طريقه أو أقطع من بر أو أجري من نعمة كر عليها المَحْو، وتعقبها النسخ، والقبائل التي أخذت عفو طاعته وخفت إلى بيعته لم يقسم الله لها حظاً من رفقه، ولا هضماً من غُرمه ولا مزية من ملكه. والرعايا استولت عليها المغارم ونزفها الحلْب حتى عجزت عن الفَلْح وضعفت عن الإثارة والبذر

(1/87)

يستصفي أموالها بعصَاب الضيق والإلحاح، فإذا ركبت الطريق وأقلها الظَّهر وشد عَناقها القِد، نكبت عن سبل بيت المال وغاصت في كل بالوعة فاغرة. وأخذ الناس حرمان العطاء، فلا يلمحون للإسعاف مخيلة، ولا يرتشفون للإحسان بُلالة فافتتحت أبواب الأرجاف وتربصت الدوائر، وقُصَّت الرؤى، وعُبِّرَت الأحلام، وحُدَّت القواطع، وعُدت الأيام. وكان شديد الميل إلى علم القضاء بالأحكام النجومية، قد مرن على العمل بآلة الاسطرلاب، وشَدَى شيئاً من التعديل، مختصاً لذلك طبيب قصره أبا الحسن المراكشي من أهل قسنطينة والمتصف بالإجادة في ذلك. وتوعد المرْجِفِين وعزم على إنفاذ النكال بهم عند مُجاوزة الوقت المعطى للقاطع. وممن تناول السعي طائفة من الخواص والكتاب دبت عقاربهم وأرهفت مكائدهم بين يدي التوقع، وكان ذلك أقوى الأسباب فيما نزل به. وتحول من دار سكناه بالبلد الجديد إلى القصبة القُدْمَى على ضيق المحل وقُصور قُصوره عن نباهة غيرهما. وأسند حفظ مدينتهم البيضاء مستقر صامتهم وذخيرتهم وخزانة عُدَّتهم ومثوى حريمهم إلى ابن وزير أبيه المرشح ببابه لعلياء الوزارة بمزية النبل ونباهة البيت ووراثة الخطة وسعة مجال الإدراك، والرُّشوق إلى أهداف الأغراض وفضل الذكاء والنبل وغموض الحيلة وحسن التأتي، ولطاقة الإدراك وَرَهْفِ الجانب. وأوحشه زعموا بنكير علَّقه عاتق وجهته رسولاً عنه إلى بني زيان، فبانت له الغرة فلم يمهلها وأمكنته الفرصة فلم يُضعها، ورأى أنه يقوم على الموتور من قومه بفرض الكفاية من الإدالة والإراحة، فأعمل التدبير وفتك الفَتْكة التي لم تُبق للبَرَّاضِ من ذكر، ولا للسُلَيْك بن السلكة من خطر، ولا لحادي الأسد من مزية.

(1/88)

ودَاخَل زعيم المشركين من الروم صبياً من عنصر أهل قطلونية، شامخ الأنف، شديد البأو، طافحاً من خمر الاغترار، راقصاً على إيقاع جُنُون الشبيبة. قاسمه الجرأة شق الأُبْلمة، وأعطاه صفقته، وقد أَسَفَّتْه الدولة بقِضاضه. فلما كمل ما أبرماه استركبا قومهما واستخرجا الطبول والأعلام، وفَضَّ ختام صُرر المال، وقيد للسلطان جواد من مراكب الوزير خالص الحلية، وقصد إلى محل ثقافة وقد تجافت به عن المحن، لاشتهاره باللوثة وعدم الصُّلُوح للولاية. زعموا أنه تستَّر بذلك دَهْياً، فتخطته المتالف لأجله، وسلم من مغرَّة إخوته مجراه. فبايعه بالولاية وأركب للناس، وَوَجه عن الشيخ عيسَى بن الزَّرقا المستنام إليه بالأمانة على الأيام، الراجع لنظره أمر الرماة ومقاعد الحرس، السّارح في ظل البيت وخَلْف الشهرة، المنطوي على جم الانطباع والتلون والمَذَق، حالباً بذلك ضَرع السعادة في عمره حتى اضْطَبَن المال الدَّثْر المحوط بسد يأجوج من الضنانة، فجيء به من سريره إليه، فحمله على البيعة في ظل الحسام الصلت. ورتب ليلتئذٍ الأمور وأحكم التعبئة، إلا أن النار لكثرة المشاعل واقتحام الخزائن عَدَتْ على هذه المدينة فاصْطَلَمت القصر المعروف بأبي قير مطرح الأموال المجموعة وسَمَرِ الركاب المجنوبة، ومُخْرس الألسنة الناطقة، ومرجع العيون الطامحة، المشتملة دُوره وزواياه على الكثير من عُدد المُلك وآلات الحركات وأجرام المنشآت وثمين السلع من الَّلك والنَّيلج والعاج والأبنوس والصندل وَشِبْهه. ثم تعدّت إلى دار الصنعة وبه مالا يأخذه الوصف من السُّروج والمهندات والسلاح ونقر الذَّهب والفضة، إلى المواعين والموازين وآلات الخيل، ثم اتصلت بدار الديباج فالتهمت من الحرير والأثواب وآلات النَّسج وضخام المناول وألواح الرسوم وجبال التَّمْويح وعقار الصبغ وغَزْل الذهب ما لا يأخذه الوصف. وتلاحقت ألسنة النار بأعناق السماء وفضحت أستار الظلماء، وكان اصطلام هذه الدُّور مما نغَّص المسرة وحظَّ التدبير وإلمام المنْحَسَة، وأَحْرِ بما جمعه اللَّهْفُ والقَسْر وأُغمِضَ فيه الدِّين أن تسوء عُقباه وتكون النار مأواه. ولما وضح الصباح قُرعت الطبول والناس في بُلَنْهِيةٍ، ونُشرت الأعلام، ووقع النداء بأمر السلطان الذي نقلت إليه البيعة فانكشف الخبء، واشتهر الأمر، واستركب السلطان فبرز في مركبٍ أخْشَن قد حفّه وزيراه مسعود ابن رَحُّو، وسليمان بن داود المستقدم من جبل الفتح، وخطيبه أبو عبد الله بن مرزوق، وخالصته سُليمن ن وَنْزَار، والجمُّ الغفير من الأشراف وأرباب المشورة وأشياخ القبيل، وطاف بالبلد فرأى سُخْنَةَ عينه، وشجا صدره ومَثَار حسرته. ووقع الرأي منهم على التخييم بظاهره، ونقْل الأسواق إليه، واضطراب المحلات عليه. فاستُدعيت المضارب وقد تناصف اليوم، وبدا في المصاف الاختلال وكثر إلى محل الثورة النُّزوع وبه اللحاق، والسلطان رحمه الله قد اختبل جزعاً واسْتُطيرَ فَرَقاً، وقعد بمضرب هجير نُصِب له يُقلب كَفَّيه ويلاحظ الموت صَلْتاً من خلفه وبين يديه، ويستدعي الماء لتبريد جوانحه فيُؤتَى به في أواني تَعَافُها البُهْم من مبتذلات آلات الضُّعفاء، عنواناً على الخمول ودليلاً على الإدبار. ولم يكن إلا أن انهزم النهار فانهزم عنه جمعه من غير قتال ولا مدافعة شأن مَنْ قبله، وتُرك أوحش من وتد في قاع، وولَّى العنان يخبِطُ عشواء في طائفته الخاصة به وكلهم ينجدُه ويقوي بصيرتَه ويعده بالدفاع عنه الوعد المكذوب، ويقسم له على الوفاء له القَسَم الحانث، ولم يتم ذلك، ونزل الليل إلا وقد أفردوه وخلَّفوه وحيداً مطرحاً مكفور الصنيعة مضاع الحق، ورجعوا أدراجهم فاستأمنوا لأنفسهم من الغد. ثم بدا في أمرهم فأكبلوا وضموا إلى الثقاف. وأُخرجَ للبحث عن السلطان شعيب بن ميمون ابن وادَرار، مخلفه كان على مدينة الجزائر وكان قد أوقع به سُخطة اعتيم لأجلها فعثر عليه من الغد في بيوت بعض البادية على أميال من المدينة قد استبدل ثياب الملك أسمالاً فأركبه على الظهر، واستاقه إلى قريب من البلد وطيَّر مستأذناً في أمره فاستعجل في قتله وجلب رأسه، فصدر ذلك على يد علج أو أعلاج من قاذورات المشركين، طرحوه عن ظهر الدابة التي سيق عليها وقتلوه ذبحاً عن جَزَعٍ شديد واستلطافٍ وممانعةٍ باليد عن حُلْقُومه، ثم حزُّوا

(1/89)

رأسه عن عُسْرٍ متصلاً ببعض تَرْقُوَته، وضمَّه بعضُهم في فضل ثوبه فأوصله إلى ما بين يدي الثائر والعيون ناظرة إلى خليفتها بالأمس على هذه الحال فلم تحرك الحَمِيَّةُ نفساً، ولم يقم حسنُ العهد رسماً، وأمر والي البلدة بمواراته، فأضيف رأسُه إلى جَسَدِه، لأَمَ غاسِلُه بينهما بطين القَيْموليا العلك. وقضى مُشَاهِدُه العجب من بدانته وفرط شحمه. واستُدْعِيَ له من سَراةِ الناس ووجوه الطبقات من حضر جنازته وقد نُوِّهَ بجهازه وخشب مواراته، ودفن بالقبلة من المقبرة بازاء المُصَلّى العيدي المطلة من كثب على باب الجيسة، فانقضى أمره على هذه الوتيرة. وكان رحمه الله على تطامُن هِمَّتِه وتقاصُر مدى خصاله، دمثاً شديدَ الحياء وسيماً غير عَرِيٍّ عن الإدراك سيما في مبادئ الحساب. وقام بالأمر على سنن الحجابة العامرية الوزير الناهض بالكَلِّ البائي بالعبئ، مكفي السماء على الأرض، وخائض بحر الهوْل، وفاصل خُطَّةِ الكريهة وابن جَلا الإقدام وطَلاَّع ثنايا الجرأة من مُرهف البدن نحيله، يتوقد ذكاء، حديد اللحظ خفيف الحركة، نومُه فكرةٌ وجوارحُه مسامع:
رَقِيقٌ كَمَا غَنَّتْ حَمَامةُ أَيْكَةٍ ... وَجَزْل كَمَا شَقَّ الهواءَ عُقَابُ

(1/90)

أحسَّ لأول أمره بنث، وأوجس من بطانة السوء المتجافي لها خيفةً، فَجَرَّع الرومي مُمِدَّه في الأمر ومظاهِره على الفِتْكَةِ الشنعاء كأس الحتف وكان فَتياً حَميَّ الأنف، شديدَ الصَلَف، مترامياً إلى أقصى حدود البسالة محتقراً للأمة، بادر ثانيه من زعماء الروم بالقتل وتغالى للوقت، وأجار على الوزير من يخاف مع بقائه فسادَ أمره، فبطش به لأسبوع من الكائنة. وقد نمى إليه زعموا تدبيره عليه في طائفة، منهم الفقيه الخطيب أبو عبد الله بن مرزوق، وهي التي جنت البداء في أمره والبدار إلى ثقافه، واستخراجه من بيت سيد الشرفاء صهره، بعد أن كان مُسَوَّغ العافية مخصوصاً بخلعة الأمان، متجافي له عن القُل والكُثْر، مخيراً في الانصراف والإِقامة. وسليمان بن ونزار المغرب الشَّأو في تهتك اللذة، والسَّبْح في بحر العُهْر، المُخلَّى بينه وبين غايات المجانة، المخصوص برسم القيادة، أعجب أهل جلدته في حسن الصورة ونصاعة الظرف، وغرابة المشية وتباهي البزَّة وممن يوصف بسخاءٍ وإيثار، لكن مقصور على أبطال الكأس ووصلاء المجانة والرقاعة ومجال اللذة، وهذا السخاء الغالب على سخاء الوقت في الأحداث من أبناء النعم، وكان له بالرومي لياذٌ وإليه صاغية وقد كان تقدَّم سجن الوزيرين قبله بحال ترقيةٍ، ممسوحةٌ أعطافهما بالعُذر مُعللةٌ نفوسهما بالإيناس. فوقعت على الروم يومئذٍ وقيعةٌ سد السيف فيها وألْحَم، أجلت عن جُملةِ تناهز المائة إذ سبق عميدهم باب السلطان ونذر به الوزير، فأخذ أهبته واستعان بشيوخ الدولة وشحن الملعب بالرجال، ودخل القصر من بعض أبواب السر، واستدعى الرومي للمفاوضة في بعض الأمر فلم تسعه إلا الإجابة فدخل ممتقع اللون مستشعراً للشر، وتخلف الكماة من فرسانه الغُلْفَ وراءه، فحاوره وصَرَفه ثم أوعز إلى الرجال بالإيقاع به، فتراوغ ورام الإفلات، واعتورته السيوف فمُزّق، وتعرف قومه الأمر، فراموا المدافعة عن أنفسهم وقد شَرِهَ الناس إلى إبادتهم فتُعُوِرُوا ضرباً هبراً وطعناً دِرَاكاً، وعاث الجندُ في سلاحهم وكُراعهم واعتصم سوادُهم بالمدينة المقطعة لسكناهُم، فأحيط بهم وأُخرِجوا عن دورهم فانحازوا إلى فضاء منعوا فيه حوزتهم بخلال ما بودر بأمانهم ورفع السيف عنهم، وفد انتُهِبُوا فلم يبق لهم نافخ ضَرَمَة، وامتلأت الأيدي من أسبابهم وحَريثهم وصامتهم وحليهم وما عونهم فهلك لهم متاع جم. وللحين أُنفذ القتل في سليمن بن ونزار حليفهم واستُصْفِيت أمواله. وضم الخطيب إلى دار سكناه بالبلد الجديد قبل الحادثة، لصق قصر السلطان، وطولب بالمال فتعلل، ثم أحضر زعموا اثنتي عشر ألفاً من الذهب العين إلى الأصول والمتاع والله يلطف له وبنفس الكرب عنه برحمته.

(1/91)

وتقرر الأمر على إبراز السلطان للناس جلسة الخطيب، ثم اختلى الوزير بأرباب الشورى كيحيى بن رحّو بن تاشفين بن معطي، بقية الوقت، وعمرو القبيل رجاحة ودهياً ونبلاً وألمعيَّة، وإدريس بن يوسف تلْوُهُ المُبِرُّ بالرُّوَاء والسذاجة، وبحناش ابن عمر الفسيح الذَّرع المُرْخَى العنان مع استجماع، القادح زناد السبل المستدر في مثله، إلى غيرهم من جِلَّةِ نُقاوة. وبادر مخاطبة الثائر بالأندلس يعرفه بالصنيع الذي أراح مُخَنَّقَه، وتعجل إفاقَتَه. ويوعز إليه بضبط من لنظره من اليعاقبة المرتَقبِين لحظوظهم من الدولة. وخاطب من لنظره من الجيش المستخدم في إعانة سلطاننا أبي عبد الله بن نصر بالرجوع إلى محال سُكناهم، وكتب إلى الأسطول كذلك بالقفول إلى سواحله، وخاطب من بتلمسان يعرض عليه حُسن الجوار وتهنى الأمر مع سد باب الفتنة والامتساك بمن يتصل به من مبايني الأمر وأضداد الدولة. وأَجْرَى الرسوم، وأفاضَ العطاء، وجدد الإقطاعات، وضاعف السهام، وأجرى القبيل على السَّنَن القديم مظنة الارتياش، والآن لهم القول واعترف لهم بالفضل فطابت به نفوسهم وضبثت به أيديهم ووطئوا عقبه ووعدوه المؤازرة وضمنوا له المدافعة وشرع في الاعتزاز بالوزعة، والانغماس في الحامية وراش جناحه بقبيله من بني يابان وهم عَدَد وافر، وألقى الله لهذا العهد على الخلق واقية كواقية الوليد، فاتسقت الطاعة ودانت الجبال الشم. وانتشرت الرُّفَق، وأمنت السُّبُل. وكانت قد سبقت بيني وبينه مداخلةٌ أكَّدها وصوله إلى منتبذي من مدينة سلا في بعض وجهت الخدمة، فقدمت عليه بعد استدعائي ثاني شهر ذي الحجة من العام، فأعمل الخطأ وصارفني المعاطفة وأنزلني بيت أهله ومهد لي فراش نومته، واستدعى نصحي في كثير من أمره وأنشدته شعراً بغرضي في سرعة التحول وتيسير الانصراف:
رَأَتْ والليلُ قد سَدَلَ الرّواقا ... شعاعَ البرقِ يأْتَلِقُ ائتِلاقا
وحققت الوميضَ وميضَ نجدٍ ... فهاج فؤادَها نَجدٌ وشاقا
ونازَعَها الزِّمامُ فما ثَناها ... وعارَضَها العِقالُ فما أطاقا
تقولُ ليَ السُّراةُ وقد أجَدَّتْ ... أَخَبْلاً تشتكي قُلتُ اشتياقا
إلى عمَر بن عبد اللهِ حَنَّت ... رِكَابي فهي تستبقُ استباقا
إلى الغَيْثِ الذي إن شحَّ غَيْثٌ ... فَمِنْ يُمْناهُ يَنْدَفِقُ اندِفاقا
إلى الليثِ الذي راعَ الأعادي ... وأَمَّنَ رِفْقُ سيرتِه الرفاق
إلى حَبْرِ السياسة لا يُجارَى ... ولا يبغي مُعارِضُه اللِّحاقا
إلى الفَطِن الذي لولا نَداهُ ... إذا ما جئتَه خِفْتَ احتِراقا
إلى قَمَرِ الوزارة جلَّلَتْهُ ... إِيَاةُ السَّعْدِ نوراً واتساقَا
وعصمةَ ربه اشتمل اشتمالاً ... فما يَخْشَى الأُفولَ ولا المَحَاقا
وحيدُ الفضل مشترك الأيادي ... بمِيدانِ العُلا حاز السباقا
إذا نَسَقَ الحديثَ الرَّطْبَ قلنا ... أهذا الشهدُ أم أحلى مَذَاقا
وإنْ ذُكِرَتْ مفاخِرُهُ ابتدرْنَا ... مهبّ الطيبِ يُنْتَشَقُ انتِشاقَا
مرينيُّ النِّجار فلا ادعاءً ... تقولُ إذا مَدَحْتَ ولا اختلاقا
ومن كأبيه عبد الله رأياً ... إذا ما المُعْضِل انطبق انطباقا
لَعَبْدُ الله في الوزراء مَهْما ... تذُوكِرَ خيرُ من ركض العِتاقا
ظهيرُ الأمرِ والقِدْحُ المُعَلَّى ... وأكرمُ مَنْ نَضَا البِيضَ الرِقَاقَا
غَدَتْ عَليَاهُ فوقَ البدرِ تاجاً ... وللجَوْزاءِ قد مثلت نِطَاقَا
لقد غَدَتِ الوزارة منك تُزْهَى ... بمن رقَّت سجاياهُ وَراقَا
وسيف الملك أنت وأيُّ سَيفٍ ... كَفى الأزماتِ دون دمٍ أراقا
رَكِبتَ الهَولَ في سُبُلِ المعالي ... فَلُقِّيتَ السعادةَ والوِفاقا
ضَرَبْتَ الصَّخْرَ فانفجر انفجاراً ... ضَرَبْتَ البَحْرَ فانْفَرَقَ انفِراقا
وَزَارَتُكَ التي حقاً تُهَنَّي ... فما هَدَراً وَلِيتَ ولا اتفاقا
فَلَمْ تَزْدَدْ برتبتها عُلُواً ... ولم تَزْدَدْ بنعمتها ارتفاقا
ولكن بعضُ خقِّكَ قُمْتَ فيه ... بحقِّكَ بعد ما استُرِقَ استراقا

(1/92)

خطبتُ عُلاكَ قبل اليومِ وُدّاً ... بذلتُ من الوفاء له صَداقا
وأوعدتُ الزمانَ بك انتصاراً ... وأرغمت الخطوبَ بك اعتلاقا
فسامحني فَعُذْرِي غيرُ خافٍ ... إذا ما العُذْرُ في التقصير ضاقا
شكوتُ لك التَّغَرُّبَ قبل هذا ... وهأنا بعده أشكو الفراقا
فلولا ما تَوالَى من حديثٍ ... بعزك لم أكنْ مِمَّنْ أفاقا
فقَرِّرْ حالتي من غير لُبْثٍ ... هناءً واحتراماً وانطلاقا
ركبتَ الدَّهرَ منقاداً ذَلولاً ... بحرمةِ مصطفى رَكِبَ البُراقا
وتلطفت إلى سلطانه في طلب جارية من بنات الروم ممن اشتمل عليهن قصره بقولي:
قصدتُ إلى المولى أبي عمر الرضا ... غدت بالذي يَرْضى المشيئةُ جاريه
وطوفانُ هَمِّي قد طَغَى لِيُجِيرَنِي ... وتُركبَنِي آلاؤه فوق جاريه
وإني لراضٍ بالذي يَرْتَضِيه لي ... ولو عَبَدَتْ آباؤها شَنْتَ ماريه
وإن ظنوني في الإمامِ وفضله ... محققةٌ والله لا متمازيه
ففاز بما يهواهُ من فضل ربِّه ... وأمُّ الذي يَهْوَى له الشرَّ هاويه
فلم يدع غاية فضل إلا بلغها، ولا ثَنِيَّةَ وفاءٍ إلا طلعها، فنوه في الملأ المشهود الجلسة، وخصني بالإفراد مع أميره والخَلْوَة، واقتضى منه ملوكّي الخلعة ووافر العطية، وجدد الصكوك وضاعف العناية، وألحق الولد، والقرابة وحَرَّر من المغارم الغلة، جزاه الله أفضل الجزاء وأعانه على ما يرضيه - وكان من الأمر ما يذكر إن شاء الله.
رَجْعُ التاريخ
عبور السّلطان محمد الخامس المخلوع إلى الأندلس
وحث السلطان أبو عبد الله بن نصر الموجه إلى الأندلس ركابه إلى سبتة لا يُصدق بالإفلات ولا يثق بالنجاة، فعارت له خيلُ ونفقت حُموله لشدة السَّيْر، واستقر بسَبتة واستعجل الجواز وحلَّ بجبل الفتح بعد مراوضة كبيرة لقواد الأسطول الرومي ومحاورة، إذ تبرعوا بإِجازته ولم يسمحوا في خلاف ذلك ليجلبوا الفخر لسلطانهم وينسبوا الحركة إليه، فأعملت الحيلةُ ولُفقت الحُجة، وقطع السلطان ألسِنَتَهُم بمال بذله مُكارمة لهم، وأركب أجفانَهم طائفة من كبار قرابته، واستقرَّ بجبل الفتح وطال به مقامه تتردد الرسل بينه وبين ملك الروم، ثم ارتحل نحوه في لُمَّةٍ من مماليكه ووجوه قرابته، وتحفَّى السلطانُ بمقدمه، وبالغ في بِرِّه، وأفرط في التَّنزل لوجهته، وأبعد المَدى في خُطا تلقيه، وأَرْجَل الأكابر لأداء حقه، وتوسع في نُزُله، وعمَّ بالملاحظة جميع مَنْ في صُحْبَتِه، وأعطاه صفقة يمينه بالمظاهرة والمعاضدة والتهالك من دون بغيته، وسلفه ثلاثين ألف دينار من الذهب العين بنفقته، وشرط له أن لا يبتزَّه حصناً ولا ينقصه فتحاً، ولا يعلق به طماعية، وأنه يصل معه السلم مدة حياته، ويتركه وصيةً في عَقِبه. وانصرف مجبوراً قريرَ العين، منشرحَ الصدر، فلحق بسائر الجيش المريني ومن تخلف عنه من قومه بظاهر رُنْدَه، وارتحل إلى أحواز أنْتِقَيْرَة في جُوَيْشٍ من المسلمين وطاع له حصن أنكَيرة من الحصون المنسوبة إلى مالقة، نزع إليه قائده فجعل به حصة من الخيل وثَقِفَه. وبيناهُ يرتقب إنجاز وعد ملك الروم ولحاق جيش مظاهرته له، إذ يجيء النبأ المشنوء، من الفتك بالسلطان أبي سالم، ملك المغرب مٌعينِه ورائشِ جناحه، والكادح له، وقد تطاولت الأعناق لمقدمه واهتزت الأندلس لوجهته، وترددت المخاطبات بينه وبين من يرجو القيام بدعوته. وكان قد بذل المجهود في طلب استصحابي، وتواترت مخاطبتُه إياي على عادة اعتداده وسَنَن فضله، فآثرت ما أنا بسبيله من الراحة، والفرار عن هفوات الغِيَر والانكماش عن الخدمة وأقنعته بالوعد من تَوجُهي إليه بولده عند تصير الأمر إليه. والنيابة في اقتضاء جميل سراحه من باب السلطان، وخطة كرامةٍ طريفة له، وإكناف رواق الستر على من تصحَبُهُ من حرمته، وترتيب القدوم عليه به، وتقرير حال لقائه إياهُ، في آمال عديدةٍ أخذها الترتيب وزيَّنها البيان والخطابة، ثم محاولة الانصراف عنه إلى بيت الله من غير تَلَبُّسٍ بخدمة، ولا غمسِ يدٍ في فرث خُطة، ولا مغير للنَسْكِ من هيئة ولا لبسة. فقنع بذلك وراكنني إليه واستدعى المشورة فيما يَعِنُّ له، فرسمت من ذلك ما قُدِّرَ غناؤه، وتُوُهِّمت الحاجة إليه.

(1/93)

ونظَمت القصيدة المُعَدة لإنشاده إياها عند تملي المنيحة وتهني الموهبة، فتعددت منها الأغراض وأخذها الطول، وتَفَنَّنَتْ منها المقاصد. ومن الأمور التي أعثَرَتْ عليها التجربة، إخفاق المساعي في الأغراض التي تُقدم لها القصائد والإنشاءات وتروي الخطب والمنظومات، ليتبرأ قضاء الله من تحكم البشر وتبدو مزية القدر. وأنا أجلب القصيدة على جهة الإحْمَاض والتنشيط إذ فائدتها مع تمام الأمر وإحقاقه حاصلة لمن ارتاد الآداب وكلف بالفضائل، وتشوف إلى الأنحاء البلاغية والمقاصد وهي:
الحقُّ يَعلو والأباطِلُ تَسْفُلُ ... واللهُ عَن أحكامه لا يُسألُ
والأمرُ فيما كان أو هوَ كائِنٌ ... كالعِلَّةِ القُصوى فكيف يُعَلَّلُ
وهوَ الوجودُ يجودُ طَوراً بالذي ... تَرضَى النفوسُ بِهِ وطَوراً يَبْخَلُ
وإذا استَحالَتْ حالةٌ وتَبَدَّلَتْ ... فالله عزَّ وجلَّ لا يتبَدَّلُ
واليُسْرُ بعدَ العُسْرِ مَوعودٌ بهِ ... والصَّبْرُ بالفَرَجِ القريبِ مُوَكَّلُ
والمُستَعِدُّ لِما يُؤمِّلُ قابِلٌ ... وكفاكَ شاهِدُ قَيِّدوا وتَوكَّلوا
ومَن اقتَضَى بالسَّعدِ دَيْنَ زمانِهِ ... والسَّيفِ لم يَبْعُد عليهِ مُؤمَّلُ
أمحمدٌ والحمدُ مِنكَ سَجيَّةٌ ... بِحُلِيِّها بينَ الوَرى يُتَجَمَّلُ
أما سُعُودُكَ فهيَ دزنَ مُنازِعٍ ... عَقْدٌ بأحكامِ القضاءِ يُسَجَّلُ
ولكَ السجايا الغُرُّ والشِيَمُ التي ... بِغَريبِها يَتَمَثَلُ المُتَمَثَلُ
ولكَ الوَقارُ إذا تزلزلت الرُّبَا ... وهَفَتْ مِنَ الرَّوْعِ الهِضابُ المُثَّلُ
ولك الجبينُ الطَّلْقُ والخُلُقُ الذي ... لَحْظُ الكمالِ بِلَحْظِهِنَّ مُوَكَّلُ
النُّورُ أنتَ وكُلُّ نورٍ دُجْيَةٌ ... والبحرُ أنتَ وكلُّ بَحرٍ جَدْوَلُ
وإذا ذُكِرْتَ كأَنَّ هبَّاتِ الصَّبَا ... رَكَدَ الكَبَاءُ بِجَوِّها والمَنْدَلُ
مَنْ ذا يجيدُ الوصفَ مِنكَ خَيالُهُ ... وَصِفَاتُ مَجدِكَ فَوقَ ما يُتَخَيَّلُ
والله ما وفَّى بحَقِّكَ مادِحٌ ... واللهِ ما جلَّى بحَمدِكَ مِقْوَلُ
عَوِّذْ كمالَكَ ما استَطَعْتَ فإِنَّهُ ... قد تَنْقُصُ الأشياءُ مما تَكْمُلُ
تابَ الزمانُ لديكَ مما قد جَنَى ... واللهُ يأمُرُ بالمَتَابِ ويَقْبَلُ
إن كانَ ماضٍ مِن زَمَانِكَ قد أتى ... بإساءةٍ قد سَرَّكَ المُسْتَقبَلُ
هذا بِذاكَ فَشَفِّعِ الثَّاني الذي ... أرضاكَ فيما قد جَناهُ الأوَّلُ
واللهُ قد ولاَّكَ أمرَ عِبَادِهِ ... لمَّا ارتَضَاكَ ولاَيَةً لا تُعْزَلُ
وإذا تَغَمَّدَكَ الإلهُ بِنَصْرِهِ ... وقَضَى لكَ الحُسْنى فَمَنْ ذا يخذلُ؟
فإذا انتَضَيْتَ فكلُّ كهم مُرْهَفٌ ... وإذا ضَرَبْتَ فكلُّ عُضْوٍ مَفْصِلُ
فلو اعتَمَدْتَ على الرِّيَاحِ لغارَةٍ ... نَهَضَتْ بغارَتِكَ الصَّبا والشَّمأَلُ
ولو استعنتَ الشُهْبَ واستَنْجَدْتَها ... حَمَل السلاحَ لك السِماكُ الأَعْزَلُ
سُبحانَ مَنْ بِعُلاكَ قد شَعَبَ الثَّأَى ... وأعادَ حَلْيَ الجيدِ وهو معطَّلُ
قد كادَتْ الأعيانُ يكذِبُ حِسُّها ... والأوَّلِيَّاتُ السَّوابقُ تُجهَلُ
والأرضُ راجفةٌ تَمورُ وأهلُها ... عَصفتْ بهم ريحُ العَذابِ فَزُلزِلوا
من ماتَ مِنهم ماتَ ميتَةَ فِتنَةٍ ... أو عاشَ فَهو مُفَسَّقٌ ومُضَلَّلُ
لا بيعَةٌ تُنْجي ولا عَهْدٌ يَقِي ... الدِّينُ والدُّنيا نَسيجٌ هَلْهَلُ
فَحَجَبْتَ عن آفاقِهم مَن يَهْتَدي ... ومَنَعْتَ عن أحكامِهِم مَن يَعْدِلُ
فاليومَ إذ بَخَعَ المُسيءُ بِذَنبِهِ ... مُسْتَسْلِماً وتَنَصَّلَ المُتَنَصِّلُ
فاشمِلْ بِعَفوِكَ مَن تَجَنَّى أو جَنَى ... واسلُك طريقَتَكَ التي هيَ أمثَلُ
واحرُس حِمى العَليا فمَجدُكَ مُنْجِدٌ ... واطلُب مَدى الدُّنيا فسَعْدُكَ مُقبِلُ
وانْهَد فَنَصْرُ اللهِ فوقَكَ رايَةٌ ... وَمِنَ السُّعودِ عليكَ سِتْرٌ مُسْبَلُ

(1/94)

والرُّعبُ بينَ يديكَ يُرْدِفُ جَحْفَلاً ... مِنهُ على بُعْدِ المسافةِ جَحْفَلُ
والرُّوحُ روحُ اللهِ يَنفُذُ حُكمُهُ ... لكَ والملائِكةُ الكِرامُ تَنَزَّلُ
لم يَدْرِ إسماعيلُ ما طَوَّقْتَه ... مِن مِنَّةٍ لو كانَ مِمَّنْ يَعْقِلُ
نِعَمٌ مُهَنَّأَةٌ وظلٌ سَجْسَجٌ ... تَنْدى غَضَارَتُهُ وماءٌ سَلْسَلُ
الطَّاعِمُ الكاسي ورِفْدُكَ كافِلٌ ... والعالَةُ المُعفاةُ مِمَّا يَثْقُلُ
أغراهُ شَيطانُ الغُرورِ لِغايَةٍ ... مِن دونها تَنْضَى المَطِيُّ الذُلَّلُ
يَبغي به دَرْجاً إلى نَيْلِ التي ... كانت قُوَى إدراكِهِ تَتَخَيَّلُ
سَرْعانَ ما أبداهُ ثمَّ أعادَهُ ... في هَفوَةِ البَلوَى وبِئْسَ المَنْزلُ
وسَقى بِكأسِ الحَيْنِ قَيْساً بَعْدَهُ ... واللهُ يُمْلي للطُّغاةِ ويُمْهِلُ
والغَدْرُ شَرٌّ سَجِيَّةٍ مَذمومَةٍ ... شَهِدَ الحكيمُ بِذاكَ والمُتَمَلِّلُ
فاسْاَل ديارَ الغادِرِينَ فإنَّها ... لمُجيبةٌ أطلالُها مَن يَسْأَلُ
جَرَّتْ عليها الرَّامِسات ذيولَها ... وعَوَتْ بِعِقْوَتِهَا الذئابُ العُسَّلُ
يا فَتْكَةً أخْفَتْ مواطِئَ غَدْرِها ... حِيَلُ الخَديعَةِ والظَّلامُ المُسْبَلُ
عَثرَ الزمانُ بها وكانت فَلْتَةً ... شَنعاءَ والدُّنيا تَجِدُّ وتَهْزِلُ
أَمِنَتْ سُعُودُك من حَرابةِ قاطِعِ ... فاسْرَحْ ورِدْ فهوَ الكَلا والمَنْهَلُ
قُتِلَ المُقاتِلُ بعدَها بِسِلاحِهِ ... وغَدا لها زُحَلٌ يَقرُّ ويَزْحَلُ
ولَفيفُ جُبَّانٍ إذا ما استُوقِفوا ... نادَتْ بهم آجالُهُم فتَسَلَّلُوا
طَرَقُوا على الضِّرْغَام لَيلاً غابَهُ ... والبدرُ تاجٌ بالنُّجومِ مُكلَّلُ
لولا دِفاعُ اللهِ عَنكَ وعصْمَةٌ ... أصْبَحْتَ في أبرادِها تَتَسَرْبِلُ
ما رُقِّعَ الوَهْيُ الذي قد مزَّقوا ... ما حُلِّيَ الجيدُ الذي قد عَطَّلوا
فَثَبَّتَ مُجْتَمِعَ الفؤادِ بِهفوَةٍ ... خُذِلَ النَّصيرُ بها وخانَ المَعْقلُ
وفداكَ شيخُ الأولياءِ بِنفسِهِ ... والنَّفْسُ آثَرُ كُلِّ شَيءٍ يُبْذَلُ
ما ضَرَّهُم إذ ناوَشَتْهُ كِلابُهُم ... وسَطَتْ بهِ أنْ لم يكونوا مُثَّلُ
وكذلك الخَبُّ اللئيمُ إذا سَطَا ... عَمِلَ التي ما بَعدَها ما يُعِمَلُ
ونَجَوْتَ مَنْجَى البَدْرِ بعدَ محاقِهِ ... تَهْوِي كما يَهْوِي بِجَوٍّ أجْدَلُ
فَحَلَلْتَ من وادي الأَشَى بقَرَارَةٍ ... عزَّ الثّواءُ بها وطابَ المَنْزِلُ
كُرْسِيُّ مُعْتَصِمٍ، ومثوى هِجرةٍ ... والمُسْتَقَرُّ إذا تَزِلُّ الأرْجُلُ
دارُ الوفاءِ ومَوطِنُ القَوْمِ الأُلى ... كَفَلُوا، وبالنَّصْرِ العزيزِ تَكَفَّلوا
حتى دعاكَ المُسْتَعينُ وإنَّهُ ... لأَبَرُّ بالمُلْكِ المُضَاعِ وأكفَلُ
فَرَحَلْتَ عنهم والقُلُوبُ بوالغ ... نُعَرَ الحَناجِرِ والمَدامِعُ تَهْمِلُ
فلقد شَهِدْتُ وما شَهِدْتُ كَمَوْقِفٍ ... والناسُ قد وَصَلوا الصُّراخَ وأَعْولُوا
وبكلِّ نادٍ مِنْكَ أنَّهُ نادِبٍ ... وبُكلِّ دارٍ مِنكَ حُزنٌ مُثْكِلُ
يتزاحمونَ عَلَيْكَ حتى خِلْتُهم ... سِرْبَ القَطَا الظَّامِي وكَفُّكَ مَنْهَلُ
وظَعَنْتَ عن أوطانِ مُلْكِكَ راكِباً ... مَتْنَ العُبابِ فأيُّ صَبْرٍ يَجْمُلُ
والبحرُ قد خَفَقَتْ عليكَ ضُلُوعُهُ ... والرِّيحُ تَقتَطِعُ الزَّفيرَ وتُرْسِلُ
في مَوقِفٍ يا هَولَهُ مِن موقِفٍ ... يَذْوَى له رَضْوَى ويَذْبُلُ يَذْبُلُ
حتى حَلَلْتَ بعُنْصُرِ المَلِكِ الذي ... يُرْعَى الدَّخيلُ بِهِ ويُكْفَى المُعْضِلُ
مَثوى بَني يعقوبَ أسباطِ الهُدى ... وسَحائِب الرُّحْمَى التي تُسْتَنْزَلُ
وخَلائِف الله الذين أكُفُّهُمْ ... ديم الوَرَى إن أَحْسَنوا أو أَمْحَلُوا
ودعائِم الدِّين الحَنيفِ إذا وَهَتْ ... مِنْهُ القُوَى واخْتَلَّ مِنهُ الكَلْكَلُ

(1/95)

وكفى بإبراهيمَ بَدْرَ خِلافَةٍ ... تَعْنُو لِغُرَّتِهِ البُدورُ الكُمَّلُ
وكفى بإبراهيمَ ليثَ كَريهَةٍ ... يَعنو لعزته الهِزَبْرُ المُشْبِلُ
أغْني وأَقْني وأَعْتَني وكَفَى العَنَا ... وأعانَ فهو المُنْعِمُ المُتَفَضِّلُ
ولِكُلِّ شَيءٍ غايةٌ مَرْقُوبَةً ... أعلامُها ولكلِّ شيءٍ مَفْصِلُ
فأَنِفْتَ للدِّينِ الحنيفِ وأهْلِهِ ... مِنْ خُطَّةِ الخَسْفِ التي قد حمَّلُوا
وَلِملَّةٍ جُنَّتْ فلو لم تَنْتَدِبْ ... لم يُلْفَ مَن يَرْقَى ولا مَن يَتْفُلُ
أحْكَمْتَ بالرأيِ السَّديدِ أُصُولَهَا ... وفَرَيْتَها لمَّا استَبَانَ المَفْصِلُ
وركَبْتَ فيها كلَّ صَعْبٍ لم يكُنْ ... لولا الإلهُ وعزُّ نَصْرِكَ يَسْهُلُ
وأَجَرْتَ عليكَ العُدْوَتان قُلُوبَهَا ... وأكفَّها وعلى الحَمِيَّةِ عَوّلُوا
جَمَعَتْ عليكَ العُدْوَتانِ قُلُوبَهَا ... وأكفَّها وعلى الحَمِيَّةِ عَوَّلُوا
فاهتَزَّ للحرب الكَمِيُّ بَسَالَةً ... واهتَزَّ في مِحرابِهِ المُتَبَتِّلُ
وبدا انفعالُ الكَونِ هذا العالَمُ العُلْ ... وِيُّ مهتزٌّ فكيفَ الأسفَلُ؟
والرُّومُ لاستِرجاعِ حقكَ شَمَّرَتْ ... هذا هوَ النَّصرُ المُعِمُّ المُخْوِلُ
واستَقْبَلَتْكَ السّابحاتُ مُواخِراً ... تَهْوِي إلى ما تَبْتَغي وتُؤَمِّلُ
تُبْدي جوانِبَها العُبُوسَ وإن تَكُن ... بالنَّصْرِ منكَ وُجُوهُها تَتَهَلَّلُ
هُنَّ الجواري المُنشَآتُ قد اغْتَدَتْ ... تختالُ في بُرْدِ الشَّبابِ وتَرْفُلُ
مِن كلِّ طائِرةٍ كأَنَّ جَناحَها ... وهو الشِّراعُ به الفِراخُ تُظَلِّلُ
جوفاءَ يحملها ومَن حَمَلَتْ بهِ ... مَنْ يَعْلم الأُنثى وماذا تَحْمِلُ
أَطْلَعنَ صُبْحاً مِنْ جَبينِكَ مُسْفِراً ... يَجلو الظلامَ وهُنَّ ليلٌ أَلْيَلُ
وطَلَعْنَ مِنكَ على البِلادِ بِطارِقٍ ... لِلفَتْحِ والنَّصْرِ الذي يُسْتَقْبَلُ
وبقيَّة مِنْ قومِ عادٍ أُهلِكوا ... ببقيَّةِ الرِّيحِ العَقيمِ وجُدِّلُوا
بالباطلِ البَحْتِ الصُّراحِ تَعَزَّزوا ... فالآنَ للحقِّ المُبينِ تَذَلَّلوا
خَضَبَتْ مَناصِلُكَ المفارِقَ مِنْهُمُ ... حِنَّا نَجيعٍ صَبْغُها لا يَنْصُلُ
أقبَلْتَ في يوم الهَياجِ فأَدْبَروا ... أقْدَمْتَ في لَيلِ العَجاجِ فأَجْفَلوا
أَعجَلْتَ حِزبَ البَغيِ فاشْتَبَهَتْ بِهِم ... طُرُقُ النجاةِ وللهلاَكِ تَعَجَّلُوا
صبَّحْتَهُمْ غُرَرَ الجِيادِ كأنما ... سدَّ الثَّنِيَّة عارِضٌ مُتَهَلَّلُ
من كلِّ مُنْجَرِدٍ أغرَّ مُحَجَّلٍ ... يرمِي الجِلادَ به أَغَرُّ مُحَجَّلُ
زَجِلُ الجَناحِ إذا أجدَّ لِغايَةٍ ... وإذا تَغَنَّى بالصَّهيلِ فَبُلْبُلُ
جِيدٌ كما التَفَتَ الظَّليمُ وفوقَه ... أُذْنٌ مُمَشَّقَة وطرْفٌ أَكْحَلُ
فكأنما هو صورةٌ في هَيْكَلٍ ... مِن لُطْفِهِ وكأنما هو هَيْكَلُ
عَجَباً له أَيخافُ في لَيْلِ الوَغى ... تِيهاً وذابِلُهُ ذُبَالٌ مُشْعَلُ
وخليجُ هِندٍ راقَ حُسنُ صَفائِهِ ... حتى لَكادَ يَعومُ فيه الصَّيْقَلُ
غَرِقَتْ بِصَفْحَتِهِ النِّبالُ وأَوْشَكَتْ ... تَبغي النَّجاةَ فأَوْثَقَتْهَا الأرجلُ
فالصَّرْحُ مِنهُ مُمَرَّدٌ والصَّفْحُ من ... هُ مُوَرَّدٌ والشَطُّ منه مُهَدَّلُ
وبكلِّ أزرَقَ إن شَكَتْ ألحاظُهُ ... مَرَهَ العُيونِ فبالعَجَاجَةِ يُكْحَلُ
مُتَأَوِّدٌ أعطافُه في نَشوَةٍ ... مما يَعُلُّ مِنَ الدِّماءِ ويَنْهَلُ
عَجباً له إنَّ النَّجيعَ بِطَرْفِهِ ... رمَدٌ ولا يَخْفى عَلَيْهِ المَقْتَلُ
لله يومُكَ في الفُتُوحِ فإِنَّهُ ... يومٌ أغرُّ على الزمانِ مُحَجَّلُ
لله موقِفُكَ الذي وَثَباتُه ... وَثَباتُه مثلٌ به يُتَمَثَّلُ
والخيلُ خَطٌّ والمجالُ صحيفةٌ ... والسُّمرُ تَنْقُطُ والصَّوارِمُ تَشْكُلُ

(1/96)

والبِيضُ قد كَسَرتْ حرُوفَ جُفُونِها ... وعوامِلُ الأَسَلِ المُثَقَّفِ تَعْمَلُ
لله قومُكَ عِندَ مُشْتَجِرِ القَنَا ... إذ ثَوَّبَ الدَّاعي المُهيبُ وأقْبَلُوا
قومٌ إذا لَفَحَ الهَجيرُ وجوهَهُم ... حُجِبوا بِراياتِ الجِهادِ وظلَّلُوا
فوجوهُهُم بِسَنا الأَهِلَّةِ تَزْدَرِي ... وأكُفُّهُم جُونَ السَحائِبِ تُخْجِلُ
يا آلَ نَصْرٍ إن تُذُوكِرَ مَفْخَرٌ ... لا تُفْضَحوا مَنْ دونَكم وتَرَسَّلُوا
عَلْياؤُكُم غاياتُها لا تَنتَهي ... في مِثْلِها خانَ البَليغَ المِقْوَلُ
آثارُكم في الدِّين غيرُ خَفِيَّةٍ ... تُروَى على مَرِّ الزَّمانِ وتُنْقَلُ
أَوَ لَسْتُمُ الشُّهُبَ الأَلَى ما غَيَّروا ... مِن بَعْدِ بُعد نَبِيِّهم أو بَدَّلوا
أوَ لَيسَ جَدُّكُمُ المدينةُ دارُهُ ... كلاَّ وصاحبُه النَبيُّ المُرْسَلُ
سَعْدٌ وما أدراكَ سَعْدُ عُبَادَةٍ ... في مَجدِهِ صَدَقَ الذي يَتَوغَلُ
ماذا يُحَبِّرُ مادحٌ مِن بَعْدِ ما ... أَثْنى بمدحِكُمْ الكتابُ المُنَزَلُ
يا نُكتَةَ العَلْيا ويا قَمَرَ الهُدى ... والعُرْوَة الوُثقى التي لا تُفْصَلُ
يَهنيكَ صُنْعُ اللهِ حين تَبَلَّدَت ... فيك الحِجَى وتَلأَوَّلَ المُتَؤَوِّلُ
يَهْنِيكَ صُنْعُ اللهِ حينَ اسْتَأْنَسَتْ ... مِنكَ الظُنُونُ وأَقْصَرَ المُسْتَرسِلُ
يَهني العِبادَ أن اغتدى بِكَ دينُها ... يُجْلَى مِنَ الشكِّ المُريبِ ويُغْسَلُ
يَهني البِلادَ أن اغتَدَى بِكَ فَوْقها ... سِتْرُ الوقاية والحمايةِ يُسْدَلُ
فَتْحُ الفُتُوحِ تأخَّرَتْ أيَّامُهُ ... يَنْسَلُّ مِن حَدَبٍ إليك ويَنْسِلُ
يَزَغُ الإلهُ مِنَ النفوسِ من ارتَضَى ... حتى يَبينَ مُحِقُّها والمُبْطِلُ
واللهُ بالتمحيصِ يُوقِظُ أَنفُساً ... عن حَقِّهِ المحتومِ كانت تَغْفُلُ
ويُكَيِّفُ السبب الخَفِيَّ لِمَن قَضَى ... بسعادةٍ منه إليه تُوصَلُ
والحظُّ أمرٌ ليس في وِسْعِ امرئٍ ... فمُكَثِّرٌ في كَدِّهِ ومُقَلِّلُ
والحقُّ حقٌّ ما سِواهُ فَبَاطِلُ ... لو حَقَّقَ المُسْتَبْصِرُ المتأمِّلُ
تتلوَّنُ الدنيا وتختَلِفُ المُنَى ... والبُدُّ بُدٌّ ليس عنه مَعْدِلُ
وَلِرَبِّنَا الرُجْعَى وإن طالَ المَدى ... واللهُ نِعْمَ المُرْتَجَى والمَوْئِلُ
لم يُبْقِ ربُّك من عُداتِكَ مُعْتَدٍ ... والسيفُ يَسبِقُ حَدُّهُ مَنْ يعذِلُ
أُخِذوا بِبَغيِهِم أَيُفلِتُ هارِبٌ ... لله يسرع خَطْوُهُ أو يُعجِلُ
ثٌقفوا بكل ثنية وتبادرت ... بهمُ عيون المؤمنين فَقُتِّلُوا
سحقاً لهم لا بالوفاء تمسكوا ... يوماً ولا فازوا بما قد أَمَّلُوا
ورأى عدوُ الله عُقْبَى غدرِه ... والخزي منه معجلٌ ومؤجَّل
وهو الذي مِن حقِّه ألاَّ يُرى ... يُعنَى اللسانُ بذكره أو يَحْفِلُ
وحقارةُ الدُّنيا على الله اقتضت ... أن يثأر المستَحْقَرُ المسترذَل
هذا سليمانُ النبيُّ ابتزَّه الكرس ... يَّ بعضُ الجنِ فيما يُنْقَل
ما غيرت منك الخطوبُ سجيةً ... مجبولةً والطبع لا يتنقل
بل زاد عقلُكَ بسْطَةً من بعدها ... حتى أحاط بكل شيءٍ يُعْقَل
وأفادَك الدهرُ التجاربَ بانياً ... تضعُ الأمورَ على الوزان وتَحمِل
ما أن رأينا من يُعَابُ بحنكةٍ ... حتى يعاب الصارمُ المتفلِّلُ
قد قرَّ أمرُكَ واستقرَّ عِمادُه ... والحقُّ بانَ فلم يَدَعْ ما يُشْكِلُ
وأَنَاكَ نجلُك والسعود تحفه ... والخَلْقُ تلثم كَفَّه وتُقَبِّلُ
لَمَحُوكَ يا بَدْرَ الكَمَالِ فكَبَّرُوا ... وبَدَا هلالُكَ بَعْدَ ذَاكَ فَهَلَّلُوا
فالشملُ مجتمعٌ كأحْسَنِ حالَةٍ ... تعتادها ونوالُ رَبِّكَ يشمل
ولقد غفرتُ ذنوبَ دهري كلَّها ... حتى المشيبَ وذنبُهُ لا يُهمل
لما رأت مثواكَ كعبةَ طائفٍ ... عَيْنِي وكفَّكَ للطواف مُقَبّل

(1/97)

أهديك من أدب السياسة ما به ... تبْأَى الملوكُ على الملوك وتَفْضُل
لا تَغْفِل الحَزْمَ الذي بعقاله ... إبلُ الإمارة والإدارة تُعقل
واجعل صُماتَكَ عِبْرةً فيما مضى ... وعليه قِسْ مِنْ بعدُ مَا يُستقبل
والأمرُ تحقِرُه وقد يَنْمى كما ... تَنْمِي الجسومُ على الغِذَاء وتَعْبَلُ
فاحذر صَغِيرَ الأمر ولتحفلْ به ... وإذا غَفَلْتَ فإنه يستحفل
فالنارُ أولَ ما تكون شرارة ... والغيثُ بعد رذاذه يسترسل
شاوِرْ إذ الشورى دعتك أولي النهي ... فخطاب غير أولي النهي لا يَجمل
وأجز المُسِيءَ إذا أساءَ بفعله ... والمحسنَ الحسنى جزاءً يَعْدِل
وإذا عَدَلْتَ فلا الهوادةُ والهَوَى ... مِنْ بعده أبداً لديك تُؤمل
ومن استبحت ذمارَه بعقوبةٍ ... فبغيره من بعدها يُستبدل
وإذا عَقَدْتَ فللغَنا لا للهوى ... فبكُلِّ قَدُرٍ رتبةٌ لا تُهمل
وصُنْ اللسانَ عن القبيح فربما ... يمضي اللسانُ بحيث ينبو المُنصُل
وإذا جرحتَ فؤادَ حرٍّ لم تُطِق ... إدمالَه وبأيِّ شيءٍ يَدْمُل
واقبل وصيةَ من أتى لك ناصحاً ... واشكرْهُ وهو الكاذب المتحيل
وعلى التثبت في السعاية فاعتمد ... فمَردُّ أمرٍ فات لا يُسْتَسْهَل
وإذا جنى جانٍ تبيَّنَ جهلُهُ ... فاحلُمْ عليه فأيْنَ مَنْ لا يجْهَلُ
وارْعَ السوايقَ لا تُضِعْها إنها ... ديْنٌ يُلام لأجله من يَمْطُلُ
وإذا ترحَّل عن جوارك راحل ... فانظر بعقلك عنك ماذا يَنْقُلُ
واجعل على السِّيَرِ التي رتَّبْتَهَا ... عيناً تجيءُ بكل ما يُتَقَوَّلُ
لا تُبْدِ هَوْناً في الشدائد إن عَرَتْ ... فبقدر ما تُبديه قدرُك يَخْمُلُ
والمالَ خذْهُ بحقِّهِ واعلمْ بأنَّ ... المالَ للغرضِ البعيد يُوَصِّلُ
وازِنْ به مؤنَ السياسةِ وادَّخِر ... فضلاً وواز بخرجه ما يدخل
والمنْحُ والمنْعُ اعتبر قسطاسَه ... فالبُخْلُ والتبذيرُ مما يُرْذَلُ
وعليك بالتقوى وبالخلق الذي ... ينهى النفوس عن القبيح ويعذِل
واشغَل عن اللذات نفسَك بالذي ... نفسُ الحكيم به تلذُّ وتُشْغَلُ
وبنو الزمان على سبيل أبيهِمُ ... إن عزَّ عزوا أو يُذَلُّ تَذَلَّلُوا
بالعفو خُذْ منهم ولا تَكْشِفْ لَهُمْ ... سِتراً فلستَ على كبير تَحْصُل
ذُمَّ الزمانُ وأهلُهُ مِنْ قَبْلِنَا ... فمتى حلا أو لذَّ هذا الحنظلُ؟
هذا وعقلُك في الخلافة قدرُه ... أسنى ورأيُكَ في السياسة أفضل
مولايَ هاضَنِيَ الزمانُ وسامني ... جوْراً وأنت هو الإمام الأعدل
أَنْحَى عَلَى وَفْرِي وروَّع مأمني ... ظُلماً وحمَّلَني الذي لا يُحْمَل
وَرَمَى بنا البحرُ المحيط ولو درى ... مِن دونِهِ مرمىً لقالَ لنا ارحلوا
إِنَّا قُتلنا بالنوى سِيَّانِ مَنْ ... يُجْلَى عن الأوطان أو مَنْ يُقْتَل
هذا قياسٌ ليس يُدفع حكْمُه ... من بعدِ ما شَهِدَ الكتاب المُنْزَلُ
أصبحتُ في زغبٍ كأفراخِ القَطَا ... والماءُ شرطُ حياتِهم والسنبلُ
فإذا سموتُ لقَصْدِهِم لم أسْتَطِعْ ... وإذا اعتذرتُ إليهِمُ لم يَقْبَلُوا
وأنا الذي ما لي إليك وسيلةٌ ... أُدْلي بها لِعُلاَكَ أو أتَوَسَّل
أنت الوسيلةُ لِي إليكَ فلا تُضِع ... قَصْدِي فمثلُكَ مَنْ يقولُ ويَفْعَل
مَا لِي ولا لِبَنِيَّ غيرك رَحْمَةٌ ... لكنَّ عُذري واضحٌ لا يُجْهَل
خُذْهَا كما شاءَ الخلوص كأنها ... عقدٌ بألقاب البديع مفصل
أَهْدَى البيانُ بها فرائدَ حكمةٍ ... يبأى النَّدِيُّ بنشرِها والمحفل
واشكر صنيعَ اللهِ فيك فإِنَّهُ ... يُنْمِي ثوابَ الشاكرين ويُجْزِلُ
رَجْعُ التاريخ
سياسة البرميخو المغتصب لعرش غرناطة
بعد عبور السّلطان الشرعي محمد الخامس إلى الأندلس

(1/98)

وقد كان الفَسْلُ المتغلبُ على الأندلس لَمَّا شعر بالعمل على إجازة السلطان مغدورِه الذي كبس مضجعه، وابتز أمره، أخذ حِذْره، ونشط للمقارضة شَرَهَاً إلى إقامة رسوم الفتنة وجرياً عل سبيله من الجرأة، وعدم نظره في العقبى والمغبَّة، فشرع في إجازة من لنظره من أبناء الملوك والمرشحين بالمغرب للأمر والمتأهلين لإقامة سوق التشغيب على ابن عمهم، وهم جملة منهم الاخوة الأربعة المعتقلون ببعض دوره تقمناً لمرضاة السلطان الحائن، متوقِّعٍ حظَّهم، وهم عبد الحليم وعبد المؤمن ومنصور والناصر بنو السلطان المغمور الحظ بسعد أخيه، الموكوس الوزن بكدح الأيام لصنوه مع أثرة الأب ورجحان كثير من الخلال أبي علي عمر بن أمير المسلمين أبي سعيد بن أمير المسلمين أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق، أسبقهم أبو محمد عبد الحليم الأمثل الطريقة في الرجاحة وحُسن السَّمت وإقامة الخط وإبانة الخطاب والتظاهر بالتصاون والتزيّي بالخير. من رَجُلٍ رَبْعَةٍ، أزهر اللون مرهف البدن طويل اللحية مُسْوَدَّاً شعرها كأنها قِنْوُ النخلةِ المُتَعَثْكِل، لم يزل من بينهم مطمح النفوس ومرمى الآمال وهدف الأراجيف ومتشوّف الظنون. وأخوه عبد المؤمن مجاريه في بعض الخلال والصفات، المُرْبى بالصُّفرة وإيثار الصِّمَات المشهور بالإقدام. وأخوهما المنصور تلوه في الترشيح وأحد الأفراد في التشدق وتعاطي الفصاحة إلى الهُوِيِّ في أقصى دركاتِ اللَّوْذَعِيَّة، وانتحال الأدب، مباينٌ لهما بالوسامة والبدانة. وأخوه الناصر مثله وأظهر سداداً وانقباضاً مع صلوح وخيرية يشهدُ بها معارفه. إلى سوى هؤلاء من القرابة والنسباء. فَتَنَخَّلَ منهم عبد المؤمن وعبد الحليم وابن أخ لهما، وأمسك الآخرين ليكون له الخيار في الإعادة إن عارضهما معارض أو التغرير إن بانت له في متعدد من الجهات فرصة. ونذر بغرضه الأسطولُ المتضمن حفظ البحر من أسطولي المغرب وقشتالة. وقد دفعت القطعة من مرسَى المُنَكَّب فقصداها وراما التغلب عليها، وقام أهل الساحل من دونها، وأورطوها في الرمل فتعذّر إخراجها ووقع عليها قتال فَشَتْ منه في الطائفتين الجراح فتعذر سفرها وشُرع في رَدِّها إلى مستقرها وانجرف الأسطول لحاجته من زاد الماء بتلك الأحواز فغافصوه في قطعة مختصرة عجّلوا دفعها التحفت الظلمة وخاضت الموج بعد تقدم مراسلة آل زيان الراغبين في ضرب بعض عدوهم ببعضه واستجلاب الفتنة إلى أرضه والاتفاق على ما يستقر عليه الأمر. فكان نزولهم ببعض مراسي السواحل التلمسانية وذلك بين يدي الحادث بسلطان المغرب. فاستقروا في الأيالة الزبَّانيّة في نفر ستةٍ من أمير وخاصةٍ نوه بهم الأمير أبو حَمّو بتلمسان موسى بن يوسف ابن عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن متلقف كرة الحظ ومُجدد رسوم الدّولة المتفق منه على الصلوح دهياً وحزامة، فحملهم وحباهم وخلع عليهم، وأعان صاحبهم بموْئل قِرىً ومكارمة. وكان حلولهم لديه على تفئة استيلائه على مدينة الجزائر عقد الصفوة وسبْقة البلاد المنهزمة، وآخرها انقياداً للإيالة الزيانية، وتمسُّكاً بالمرينية، وقد اشتملت من العيال المتورطين بإفريقية فما دُونها والحامية المنبّتين والضعفاء المحرجين على أُممٍ وقع الرأي من آل زيان زعموا على إكْبَالهم وإرهانهم في عددهم ومثلهم ممن في السجون المرينية، فجعل هذا الوافد الشفاعة فيهم صدقة بين يدي نجواه. ولم يمكن إيواء مثواه الأمير أبا حَمّو إلا إسعافه فتخلص منهم أمة لحقوا بسببه بأوطانهم. وكان من الأمر ما يأتي به الذكر إن شاء الله.

(1/99)

ولما اتصل هذا الخبر بالسلطان طالِب حقِّه وناشِدِ ضالة ملكه، وانصرف عنه الجيش المرتزق من الدول المرينية بجملته والشيخ يحيى بن عمر بن رحو مؤمل الكرة من إمارة جنده والرّيس الذي خف لمظاهرته محمد بن يوسف بن نصر، وفرّ الكثير إلى عدوِّه، ومن وجوههم ابن وزيره المشؤوم الطائر، المهدى لقبه فأل الانكماش، المقطوع بالمنْحسة مع استبطانه هَوَجاً وخَوَراً وأَفَناً وهذراً ونَهماً وبُخلاً وبَخَراً وسوء خلة، يُبِرَّ عليه ابنه المأبون بالتطفيف في مكيال أكثر هذه الخلال، فانكفأ أدراجه على قرب عهد من وصوله إلى الأندلس فاحتل مالقة، وبها أشياخ النَّكْراء من بني شعيب المتظاهرين بالسذاجة الأندلسية وعدم التصنع وإرسال السجية، وأكل الأطعمة التي يحضرها التظرف، وفي مسْلاخ كل تيس منهم وَالِبَةُ بن الحُبَاب والعباس بن الأحنف والحسن الحكمي من اللَّوْذَعِية والفطنة والمعرفة بطرق المجانة، ويمتُّ إليهم بصهر، فقاموا به وانصرف عنهم إلى السلطان بغرناطة، فحين توسط طريقه بدا له فجعل وجهه إلى بلد النصارى وارتكب خطراً عظيماً ولحق بمنشأ فراره آيباً بِخَفِيِّ عاره. وحسبك بها مجادة وحياء ودهياً، والولد من طينة أبيه، وتوجه على آل شعيب نكير السلطان لإغفالهم إصحابه إليه وهو المعتاد في مثله بما أوجب نقلهم عن مالقة في هذه الأيام مورياً بالحاجة إليهم وفي سبيل مظاهرته.
وانحاز السلطان جبره الله بمن استمسك معه إلى صاحب قشتالة وقدم عليه فآنسه واعتذر له على التقاصر في نصرته المجدية لهيض جناحه بهلاك سلطان المغرب ثالث أثافيهم وهجوم فصل الشتاء، وضيق الزمن عن احتفاله بحركة تجيشه، وأسكنه بمن معه بلد اسْتِجَّة الكائنة على ضفة شنجل، الرَّحْبَة الساحة، المجدية الفلاحة، الأنيقة الكريمة، المطلة على ثغور بلاد المسلمين، فاستقر بها في دَعَة، وتحت نُزلٍ وجراية.
رَجْعُ التاريخ
استبداد الوزير عمر بن عبد الله
واضطراب الحالة في المغرب

(1/100)

وفي غرة شهر ذي حجة اتصل بالوزير الثائر بالسلطان الآخذ بخطام الدولة المستبد بالأمر عمر بن عبد الله بن علي ما كان من محط الأمير المتوقع نجومه بالمغرب، بساحل تلمسان، وشروعه في الحركة إلى طلب الأمر، وهو على العلم يهوي الناس إليه على فرضه رجلاً من مُدَجّنة الأشبونة أو عمل بنبلونة تناهياً في فساد السيرة والانقياد إلى النبيذ وارتباكاً في حبال الشيطان، وخَوَراً في الطباع، فضلاً عن كونه صميماً من عِيص الملك كامل شروط البيعة، موصوفاً بالرجاحة. فاستراب بمن لديه وأعمل النظر وقدح زناد الفكرة، وهمّ بأن يصيّر الملك إليه وراسله زعموا في السر، ثم أوحشه مكان أتراب له لحقوا به، منهم الحالُّ الناجم المذكور محل الوزارة محمد بن موسى بن إبراهيم، المنبز بالسبيع، المشهور بفروسية وثقافة ودربة، وأوْلي القوم سفرته، فعمل حينئذٍ على استجلاب أميره محمد بن أبي عبد الرحمن تاشفين ابن السلطان أمير المسلمين أبي الحسن، المستقر في إيالة سلطان قشتالة نازعاً إليه من جملتهم بغرناطة عند القبض عليهم، وأن يمسك عليه البلد الجديد على الحصْر حتى يصل إليه. فوجه إلى سبتة مُعتقله سليمن بن داود، أنشَقه ريح الحياة، وكان في أضيق من الخرتْ وامتَنَّ عليه أيْأَس ما كان، وطوقه الخلعة وأركبه الفارِه، وسوغه الولاية، وجعل لنظره طنجة وأقامه بالمرصاد لإيواء مُستدعاهُ والذبّ عنه والممانعة دونه إلى أن يتصل به حَبْله، وارتهن ابنه بِكْر ولدِه وشُقَّة نفسه، وثقة في الوفاء بطلبته منه، فانطلق يقول قول عمران بن حِطَّان، غَلَّ يداً مُطِلِقُها واستحق رَقَبَةً مُعْتِقُها. واستحضر الوزير مسعود بن رحّو بن علي الشاخص في النصل المرتقب للغيله نِفَاساً على الخطة، وسُمُوّاً إلى المال العريض وخوفاً من الوثوب، وقد كان، اتصل منه بصهر عالج به قرحاً دامياً أثاره بينهما التحاسد فسوغه دنياه بجَمَّتِها لم يرْزُؤُهُ منها قِطْمير، وصرفه إلى مراكش يجرُّ الدنيا برَسَن، وقد وجع من الالتفات لِيتُه وأَخْدَعُه، زعموا أن مطايا عيالِه بلغت نيفاً وثلاثين من ذوات الحَكَمات والأرائك والقِباب. ووجه لنظر أخيه عمر بن رحو ظِئْر ذلك السلطان الهالك مَظْؤورَه الولد في لمة من الخيل، وأوعز إلى أوليائه بالجهة أن يظاهروا مسعود بن رحو التئاماً على الولد إن لحقه ضيق أو تعذر لمستدعاه قصد. وعند استقرار القوم بمراكش، انتدب أشياخ العرب من العاصم والخلط وسفيان والجابر والحارث ومن حالفهم، فوصلوا إلى مراكش وشاع عنهم مُعاقدة بقبر الولي القطب المقصود التربة أبي العباس السبتي.

(1/101)

ثم نظر في ضم ما يحتاج إليه المُحْتَجِر ويقتاتُه المنحَصِر، ويفتقر المستكن، فاكتسح الأدم والأدهان والكوامخ، والشحوم معلياً لأثمانها ومرضياً بايعُها، واستكثر من الوقود فأغرى الظهر بثقل أجرام الزياتين حتى رأى الحصول على كفايته. ولقبل ما كان السلطان المغرور لم يأل اجتهاداً في ضم الأقوات فكانت مخازن الحبَّتين فاهقة وأهراؤها جاشية وأبوابها على الوسع مختومة، واستوعب الفعلة والصناع من البنائين والنجارين ومن ينسب إلى مهنة الحديد وفتل الجُدل وإصلاح السلاح إلى مهرة المهندسين، وقادحي شُعَل الأنفاط، ونافضي ذوائب المجانيق، ونقَّر عن القسي بالبلد مُغرياً بها العيون فانتزعها من حيث كانت، ولفَّ ضُروب السلاح من دكاكينه المتعارفة، وبنى المراقب والمراصد ورفع الظلال واتخذ أبراج الخُشُب والبناء ومظاهر الحرس ومناظر حذاق الرماةِ، وضم المال على ضروبه من الأوقاف والأمانات، واستدعى الرماة من الرَّجْل أولي الفرنجيات، وسواهم من فُره الدَّربين على العقارة واللولبية، والحضَر أولي الاتصاف بهذه المزية، واستلحق من يجيد الرمي فيها بالعربية، واستظهر من الرجال الأندلسيين أولي العصي والوَفْرات والوصفان المساعير والصقور والحراب بأمم يعيى عدُّها ويعجز حصرها. وأخذ مواثيق من لديه من النصارى بعد أن أكثر عُرفاءهم، وخصَّ بالإحسان فقهاءهم مقتضياً إياها في بيعة نُسكهم حسبما يستدعيه ترجمانُه ويُهذبه قسيسهم ثم تخللهم بأصنافٍ مباينين لهم في اللسان والنحلة. ولم يدع معروفاً بصناعة، ولا حامل يراعة، ولا مُصَرِّفَ آلة، ولا متقدم قوم ولا صاحب مهنة، ولا كاتب طومار أو رسالةٍ إلا حصَّله خلف سوره، إجحافاً بمُطالبه، وإخلالاً بأبَّهته، وهيضاً ظنه لجناحه. فغص البلد وضخم الملك، وتواترت الأخبار بإقبال الأمير عبد الحليم بن عمر، وقربت مراحله، وقد نَهَد من تلمسان سائراً بسيْر ضعيفه، وقد اشتمل رواقه على الجملة من الخدام بين نازع إليه ومستخلص شفاعته. واجتمع الملأ من قبيل بني مرين المعتادين في أمثالها بذل العطاء والاستظهار بهم على الحماية والذب، وقد رابهم أخذه في شأنه وازوراره بجانبه، وعدم إشراكهم في أمره، وطلبوه بالإصحار إليهم ليفاوضوه في المهمة. ونمي إليه ما أوحشه فاستأثر بمتبوأ منعته واستدعى المشيخة إليه فقارضوه النِقبة، وترددت الرسل بما أثار أنفهم واستعلاءهم ونفروا عنه بواحدة مذيعين الرغبة عنه متبرئين عن سلطانه ما دام متولي أمره. وعسكروا بالهضبة تجاه المدينة، وكانوا أملك بالبلد القديم منه، فسدوا ما يواجهه من أبوابه، وطيروا رسلهم إلى القادم يسوغونه المنحة، ويهنونه العطية، ويعطونه الصفقة، وكان وصوله إلى المدينة واضطرابه بظاهرها في السادس من شهر محرم وهو يوم السبت، في نصبة لم يُعِنْها اختيار زعموا مُحجماً عن المنزل المعتاد لِمَا كان من التقدم بهدم جُدرٍ كانت تمنع عمل فَكَّيْ آلة النفط، فنزل قِبليَّ البلد بالموضع المعروف بإِفركان بين ملتف ما به من شجر، وبرز إليه أهل البلد القديم على طبقاتهم من الشرفاء والفقهاء والخطباء والأمناء وسائر اللفيف، فقرر الرتب وقدم الحكام وعيَّن الجباة، واستكتب من أفلت من وَهَق الحصر، وتخطته أيدي القسر وقلد خُطة العلامة الفقيه الحسن الرواء، العظيم المران على الأغراض السلطانية، العذب الحديث والفكاهة، أبا سعيد بن رُشَيْد، وخُطة الأشغال الحيسوبي العريق البيت في الاصطناع وتطويق الوجاهة يوسف الكناني.

(1/102)

وكثر يومئذٍ مصطف للوزراء المتنقبين ببذل النصح وإهداء الوسائل، والمتقدم على الجملة محمد بن موسى بن إبراهيم المنبز بالسبيع باكورة النازعين إليه. واضطر إلى المال فتوجه الطلب على الجملة من أذيال الدولة وبعض المياسير تناولهم الضغط وأصابتهم الجلاوز، فرشح بعضُهم وأطمع بعضٌ ولم يحصل منهم إلا على بُلالة ريثما فُصِلت الخطة وانتاشهم الله من الورطة. وتعرض إليه قومٌ من الصفاعين والأوغاد من أهل سلا ممن يأنف يهود لعنة الله على كفارها من انتسابهم إلى نحلتها وتعلقهم بأذيال ملتها كالرُّطلي اللعين الأهرت الشدْق المستكره الوخط، الوضر الأطواق، المعروف القحة والبُهْت وتلوه الحاج السالمي اللعين المعروف السَّرق والبُهْت وحنثِ اليمين، الدَّغل العقد، والمخزي الشَّيْبَة المهان السَبَلة عدو أهل القبلة، المقعد على النطْع في سبيل العقاب المرة بعد المرة لولا سابق الأجل والشفاعة، فأطمعوا في أموال تتبين وجوهُها ببلدهم كيما تجد حياتُهم السبيل إلى لدغ أرباب النعم وأولي الهيئات على عدم ذَيْن النَّمطين بهذا البلد، وظن بهم الصدق فأصبحوا بوزير أخي السلطان من قبيل بني واطاس، ووصل معهم من غير خطاب سلطاني للمشيخة، ولا حثَّ على البيعة، نادى بالبلدة المعتدّة خِطْباً فقالت نكح. وحضر أعيانها وأين الأعيان من كل حلف الخمول ضئيل الجاه شَحْتِه مُغْرىً بعضهُم بسيئة بعض، طالبهم بالمال الفاضل عن نفقات الحُبُس من شروب المياه ورياع المساجد وأموال اليتامى، فحضرت نُتافة تافهة لا تسمن ولا تغني من جوع حسْب الملك الصراح أن يستقيل الله من عثرة التشوف إليها، ويستعدي مجده على من غمس يده مرة في قذرها، وأنفذ معه مقدماً على خطة سوائم السلطان الراعية بأبي طويل وهي العِمالَة التي يتقلدها أولو الكفاية والتحقق بالأمانة لدرور الفوائد من الجبن الذي يعم الدور والأسواق غريضه، والجلائب التي تكسو الأوضام لحْمانُها والأدهان التي تضيق الأوعية عن مُهالِها، وشمول النظر على من تجاوز المراعي المحدودة بهذه الأمم من الأنعام من قاطن أو ظاعن والتحكم في أولي البَهم المحظور عليهم سرح الحمى، والمغضوض عنهم الطرف بحسب الرشا، فأسند ذلك إلى بعض الأخابيث ممن لصق به قوادُه بالأندلس وتردد في أمره إلى تلمسان يعرف بالقناع، أشأم الخلق نصبة، وأحقرُهم طلعة وأظهرهم هَوَجاً ودَمامة خامل الأبوة مجهولها، معروف العهر مَثَل في النميمة والكذب، مَشْنُوء جميع الخلال، استظهر لأول حلوله بصك خَطَّتْهُ جميعَه يدُ سلطانه المتصفة بالخَصْل فجعل له إن تم الأمر فالولاية المذكورة معززة بخطة قيادة الرجْل جمعاً له بازاء بلائه، فأطلق للحين لَقْلَقَة بالنداء، وذِبْذِبَهُ بالخنا، وتعاطي عموم النظرات حتى في خطيب الصلاة، واستدعى الرُّشا وضمَّ الأخابث فأنس بهم ونافر أضدادهم من أهل الصون، فخافه المريب واستراب به البريء. وشرع في طوامير يخاطب بها سلطانه بالغاً أقصى مبالغ التحكم والدالة، فظهرت في هذه الخلال مبادئ النجح وبدا للناس سوء ما ارتكبوه من إجرارهم أرسانهم وتسويغهم مدينتهم، وكان من الأمر ما يأتي به الذكر إن شاء الله.
رَجْعُ التاريخ

(1/103)

وفي يوم السبت التالي لسبت النزول، كانت المناجزة بين طائفة الاحتجاز والأفحاص بعد مواقفات خف بها عند المنحصرة وزانُ القوم ممن سواهم، فخرجوا على تعبئة محكمة قد أسبغوا الدروع وأكثفوا العدد ونشروا الرايات والبنود، وهولوا بالطبول، والبوقات والدبادب والغيطات واستغلظوا بالصراخ والعجيج والجلبات، تقدمت الجمع كراديس الغز الرماة الناشبة بين أيديهم قوم من مشاهير الميدان وذوي الثقافة. وركب الجيش بظاهر البلد. وانتظمت التعبئة المرينية على السلطان عبد الحليم من الشيوخ الرجح، والفرسان أحلاس الصهوات الذين لا تفضلهم أمة من الأمم في إجادة الركض، ومثاقفة ميدان السلم، وغريب الكر والفر والانعطاف مع اللَّي. فكانت المدافعة عند الأخدود الذي أعمقوه بين المحلة والبلدة على غَلْوة من باب المدينة. واقتحمه سَرَعان الخيل من درج مغفل طاردت مَنْ وراءه بخلال ما تلاحقت الفعلة واجتهدت في العمل والتسوية، وجازت المقاتلة يتخللها رِجْل الدبَّا كثرةً من الرماة الرَّجْل وأولي العِصِي منهم، فتستروا بجدرات الجبانة وأطلال البناء، لا يمر بهم مار إلا أثبتوه، فانشمر الناس، ولاذ بهم الفرسان، فوقفوا وصبروا تسري إليهم من سحاب النَّبْل عوارض الغَيْم، وقطرات المطر السجم بحيث تحتجب عين الشمس. وأبلى المرينيون أحسن البلاء ثم أعذروا، ثم خرج السلطان يقفو التعبئة في جملة حسنة، فحميت الناشبة ونقلوا الخطا وتحرك جمع الروم يمشي الهوينا، ثم سال منهم الآتِيْ، ودكَّت بسنابك بَراذِينِهِم الأرض فتولى القوم رغماً وثنوا الأعنة على حال استجماع، فانهار قوم على العَقَبة الكؤود المفضى مسلكها الوَعْر إلى باب الجيسة. وانصرف معظم القوم ملتفين على السلطان شرقي البلد في مساوقة المصارة إلى الزاوية الحديثة، فعبروا النهر إلى هضب الرمكة، ووقفوا ملياً ثم استبصروا في الانصراف، وأقصر الجند عن الأتباع، ووقع القنوع بما تهيأ من الأمر، وعاثت الأيدي في المحلة، فوقع بها النهب، واستأصلها العياث، فعادت المضارب مزقاً، وتقسمت الآلات انتهاباً، واكتسح كثير من الظهر، وتُحدث بحسن ثبات السلطان المنهزم، واتفق القول على شجاعة أخيه عبد المؤمن ومضائه، واعترف الناس بجميل مواساته، والفضل ما شهدت به الأعداء. وتعرف بعد أن القوم قصدوا رباط تيزي اتخذها سلطانهم مُستنداً منها إلى المنعة، ومستظهراً بأهل وطنها من قبيل بني عسكر وبني ورتاجين، وشرعوا في لَمِّ الشَّعْث ورأب الثأي، فتوجه منهم إلى بني زيان وإلى العرب الأحلاف وجبال الريف، خدام مستصرخون مستنصرون يطلبون المدد ويجلبون الرجل ويستدعون الحَمِيَّة. وتفرق آخرون شَذَر مَذَر وذهب الشيخ يحيى بن رحو بن تاشفين بن معطى، قطب هذه الدوائر ومحاول هذه اللعب إلى جهة مراكش متضمناً إفساد من بها وصرف دعوتهم إلى سلطانه. وهذا الشيخ عريض المال دَثرُه، وافرُ الصامت جمه، كثير الذخيرة زعموا متملكٌ للعقار، محوط النعمة بسياج الإمساك، جامد الكف كميش البنان، قفر الخوان، أكله بلاغ وشرابه نغبة، محجورٌ لِحُجُوله المقيَّضة لنمو وفره، ولا يفتر مع الحَظْوة وقرب السواد من مضجع الملك ومبدأ السياسة من الإنكار للأحوال والسعي في الإدالة، والغمز على سقطات الدولة وإغراء أضدادها، في سبيل المشاره وفتح أبواب الغِيَر عليها، في سَنَن غريب من النبل مصرف في موضوع الشمات، وشره الإعاضة، وتَسَخُّط الأحوال، جر عليه ذلك كثيراً عند وجود الملوك أولي الحلوم والحزامة، إطالة الثقاف وجرَّ الأداهم، ومساكنة صُرعاء الغير. ولله درُّ الحكيم إذ يقول )المرء أسير مولده(، كبحنا الله عن الركض في هذه الميادين بلُجُم العبرة، وأرانا وَكْسَ هذه الحظوظ بعين البصيرة. وهو مع ما رُمي به وزُنَّ من هذه الخلال حسن المجالسة، مختصر البأو، معتدل الوقار، ظاهر النبل فطن المعاذير، كثير الحبكة وربما غُرزت في أديم ماله إبرة الصدقة.
ومن ذا الذي تُرضي سجاياه كلها ... كفى المرء فضلاً أن تُعدَّ معايبه

(1/104)

وكان أهل العقد والحل من أهل سلا قد كتبوا البيعة، ونفذوا لوجهتهم معهم قائد الأسطول مستدعى بالآلات البحرية والرماة، واتصل بالقوم خبر الهزيمة فكرَّ ليلاً، وتقبض على من كان بالبلد من خدام الأمير عبد الحليم وتحصلهم في حكم الثقاف، ثم نقلوا إلى الحضرة فاستنقذوا في طريقها لكثرة الخوض وفساد السبل، وعادت الأمور إلى بعض سكون.
ووصل الكتاب المنبئ عن الكائنة فاستدعى الناس لسماعه وقرئ على المنبر منه كتاب مرسل المقاطع عادل عن السجع. أوجب ذلك من أصحابنا المنشئين مكاني من سكنى المدينة وإيثاري لهذه الطريقة، فمدوا فيه الأعنة وذهبوا فيه إلى كثير من الإجادة ونصه: من عبد الله تاشفين أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين بن مولانا أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين أبي الحسن بن مولانا أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين أبي سعيد بن مولانا أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق، أيده الله ونصره وأطال في السعادة عمره، إلى الأشياخ المكرمين المؤثرين المرعيين الملحوظين المحترمين الشرفاء والفقهاء والخطباء والقضاة والوجوه والأعيان والأمناء والخاصة والعامة من أهل مدينة سلا حرسها الله ووصل إكرامهم ووالى رعيهم واحترامهم. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته:

(1/105)

أما بعد، فإنَّا نحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو، محب الصابرين ومجازي الشاكرين وجاعل العاقبة للمتقين، الذي أيد أولياءه، وأسبغ نعماءه، وأجزل للصابرين ثوابه وجزاءه، وأورث الأرض عباده الصالحين كما اختاره وشاءه فضلاً من الله ونعمة، والله عليم حكيم. ونصلي على سيدنا ومولانا محمد سيد الرسل وخاتم الأنبياء وصفوة الخليقة والهادي إلى سواء الطريقة، بعثه الله على حين فترة من الرسل، وفشُوٍّ من الباطل وعنُوٍّ من الجهل، فدعا إلى الحق وجاهد في ذات الله وإظهار دينه ولم يزل صابراً على العداوة والأذى داعياً إلى الرشد والهدى حتى أنزل الله عليه النصر وأذهب عنه البأس وأصبح المؤمنون بنعمة الله إخواناً، وأظهر دينه على الدين كله ولو كره المشركون، وعلى آله وأصحابه حماة دينه وأهل هجرته وأنصار ملته، وأولياء دعوته الذين فرقوا الأحزاب وبذلوا في مناصرته الأموال، وقال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل، فانقلبوا بنعمة من الله وفضلٍ لم يمسسهم سوء، واتبعوا رضوان الله، والله ذو فضل عظيم، ونسأله لهذا الأمر العلي عزّاً تتفيأ ظلاله، وسعداً تشرق آياته وتأييداً يتعرف لأولياء بركته وتمكيناً يقيم الرعايا في ظل حرمه، وإلى هذا أكرمكم الله باتصال البشائر وأعانكم على تحمل أعباء الحمد، فإِن النعم أغفال إذا لم توسم بالشكر والثناء، وشوارد إذا لم تأنس بالاعتراف والإقرار، وأوابد إذا لم تقيد بالإخلاص والدعاء. وإنّ من أعظمها قدراً، وأجلها خطراً وأولاها بالشكر سراً وعلناً والإقرار خفاءً وجهراً - وإن كان الحمد لله في كل حال - نعمة الله فيما سنَّاه لمقامنا العلي، وهيأه من نصر الأولياء والظفر بالأعداء والفتح الحميد الأنباء، الجميل الإعادة والابتداء، والتأييد الذي ضربت الدولة معه بعطنها، وألقت الدعوة له بجرانها. وذلك أن الحائن المغرور عبد الحليم بن عمر كان، حين إِجازته البحر من بلاد الأندلس، يطلب ما ليس له، والدعاية بغير حق لنفسه. احتل من هذه العدوة بتلمسان مستجيراً ببني عبد الواد، راضياً بالدنيّة في تحية سلطانهم والاستظلال بظلهم والدخول تحت حكمهم والتذلل لعزتهم والاعتماد على إعانتهم، فاستبق إليه بعض الغواة الأشقياء ممن يخبُّ في الفتنة ويُوضع ويسدي في تفريق الكلمة ويلحم، وجعل يوسوس إلى من بحضرتنا الكريمة من الأولياء ويزين لهم بما يزعمه من الكفاية والغناء طالباً منابذتهم لأمرنا وإظهار دعوته في عقر دارنا، فدلاهم بالغرور وأطمعهم في سراب يحسبه الظمآن ماءً، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً. ونزغ الشيطان بينهم فخرج علينا منهم بظاهر البلد الجديد من خلع طاعتنا ونَبَذ عهدتنا وقدح في إيالتنا، والله من ورائهم محيط وعليهم شهيد، وبهم فيما ارتكبوه من البغي كفيل. وأرسلوا إليه فجاءهم ضارباً بسوطه مُغِذّاً في سيره مستعجلاً أوان حتفه، وخالفهم إلينا مِنْ أَعزة قبيلنا ووجوه أوليائنا، رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه فما بدلوا تبديلا، ولا سلكوا غير الوفاء سبيلا، فأوليناهم من إعلاء الرتبة وترفيع المنزلة وإسباغ ما عهدوه من النعمة ما ناسب جميل الاعتناء بهم وحميد الوفاء منهم، وجعلنا ذلك لهم سائر مديتنا وعهدنا لهم به من بعدنا جزاءً لما اتسموا به من الوفاء وعرف منهم من الانقياد وأخذنا في إحصاء من معنا بالبلد الجديد من الجند والمماليك والأغزاز والنصارى ورِجْل الأندلسيين، وموالي النعمة وغيرهم ممن كان مستخدماً من قبل، أو مستلحقاً بعد، أو تحيز إلينا وفاءً بالطاعة التي لَزِمته ومعرفة بقدر النعمة التي أنشأته. وجلسنا لعرض طبقاتهم ومباشرة تمحيصهم، وفتحنا ديوان العطاء فقسمنا فيهم الأعطيات، وأجزلنا لهم الهبات، واستثرنا بترغيبهم الحفائظ والعزمات. ووصل الشقي إلى قومه يوم السبت السادس عشر لشهر تاريخه يظن أمره قد استَفحل وملكه قد استوسق، وأن دعوته توطدت وخلافته قد تمهدت، فعبأّ المواكب ورتب المصاف وجرَّ السواد والغوغاء مجتازاً من قبلي البلد إلى ناحية كدية العرائس فضربوا أبنيتهم وأقاموا أخبيتهم ثم بدا له ما لم يَحْتسِب وعلم من نفسه أنه لا تنهض إلى إضافة البلد قوتُه، ولا تستوفي إحاطتَها جموعه ولا تُحْتسب الآمال عطيته، فانعكس أمله وخاب ظنه وداخله من اليأس والجزع ما داخله، ورجع إلى فناء حائط

(1/106)

نحاه بباب الوادي معترض في الطريق، يتمنَّع به من اجتياز أوليائنا إليهم، فأمرنا بإزالته وتسهيل الطريق إليهم، فأزيل بعد محاولة بين الفريقين، انتهب فيها كثير من أمتعة العدو وكُراعِهِم وأخبيتهم ومعائشهم لولا أن الليل حال بينهم وأَمْرُنا لم يتقدم لأوليائنا بالحمل عليهم وقطع دابرهم آخر الدهر. ثم إنهم استدرَكوا حفر خندق بين يدي بنائهم حسبوه أشد عناء وأمكن تحصيناً، وخرج أولياؤنا إليهم عشي يوم الجمعة بعدَهُ في روض المصارة فناشبوهم القتال وطاولوهم النزال وأوقعوا بهم وأعظموا الفتك فيهم ونالوا منهم بالسلب والجراحة والقتل أكبرَ النيل، فقوي الرجاء في دفاعهم، وامتدت الأعين إلى ما بأيديهم، فاستخرنا الله سبحانه في الخروج إليهم، وأخلصنا النية في الذب عن المسلمين وتسكين دهمائهم وإطفاء نار الفتنة بينهم، وجعلنا الموعد صبيحة يوم السبت. ونَمَى الخبرُ بذلك إليهم فأصبحوا متأهبين للقتال متحيزين إلى المراقب ثابتين في المصاف متميزين بشعائر الألوية المختلفة ألوانها باختلاف الجموع والقبائل، وبرز أولياؤنا من باب الوادي رجالاً وركباناً دارعين مستلئمين شاكين في الدروع السابغة متلثمين بالأسلحة الرائقة الحلية مما احتوته خزائن العدد بدارنا، وصانت المدد من ذخائر أسلافنا يقْدُمُهم سيف دولتنا وظهير دعوتنا وخالصة أمرنا ونجي سرنا وكبير أوليائنا وعضد ملكنا الذي نقذف به ثغر الأهوال ونوهن به عزائم العداة وزير أمرنا أبو علي عمر بن عبد الله بن علي أعزه الله تعالى، فنقدم بجميع الأولياء في أحسن هيئة وأكمل شكة تلتاح الأشعة من قواضبهم وتلتمح الكواكب من أسنتهم، وقد ربط الله على قلوبهم وثبت أقدامهم وأوجدهم ريح النصر على عدوهم، وقصدوا إلى ما خندقه العدو حفيراً وقد استصحبوا الفعلة بالآلات المعدة لتسوية الطريق وإزالة ما اعترض فيها من البناء فصَدَقوهم القتال وصابروهم في الدفاع فلم يكن إلا كلا ولا حتى اختلت مراكزهم ووهنت عزائمهم وبَطَل ما كانوا يعملون، وزحف أولياؤنا إليهم بجملتهم على الهيئة والتدرج في المشية والنصر تخفق بنوده والدولة يهب ريحها والسعود تشرق آياتُها فالتحم القتال واشتد الجلاد وصابروا ملياً يكرون في وجه أوليائنا ويفرون، والنبل تحصبهم والرَّمي يثبتهم والرماح تستبق إليهم وطيورُ المنايا تحلق عليهم، وما راعهم إلا خروجُنا في موكبنا المنصور من خواص المماليك ووجوه العبيد والحاشية يزدلف إليهم ازدلافاً قد خفقت أعلامه وتجاوبت لجابته، فشارفوا ثم وقفوا وأضعف الرعب أيديهم وملأ أفئدتهم وزلزل أقدامهم، وصدق الأولياء بين يدينا الحملة عليهم فمنحهم الله أكتافهم، واستمر الطلب لهم والنهب في أخبيتهم، واكتُسح ما كان فيها من الذخائر والأمتعة والكراع والأسلحة، وأصبحت منازلهم خاوية كأن لم تَغْنَ بالأمس، ووقفنا بكدية العرائس بعد الظهر من يومنا ومضى الأولياء في اتباعهم فتفرقوا طرائق قدداً وأفلت الحائن ناجياً برأس طِمِرَّةٍ ولجام وتخيرنا من اتحاد الأولياء من يتبعه حذراً من إفلاته، وكتابنا هذا إليكم من حضرتنا العلية وقد افترَّ بالبشر ثغرها، وازدان بالنصر جيدها، وعمرت بالمسرات أقدارها، واستقام الأمر وظهر الحق وزهق الباطل وعادت الدولة إلى ما كانت عليه من رسوخ القَدَم ونفوذ الأمر والحمد لله على ذلكم. ولِمَا لكم عندنا من العناية الواضحة والنظر الجميل، أعلمناكم بذلكم لتأخذوا بحظكم من السرور به، وتشيعوه فيمن يَلِيكم من الأولياء، وتعلموا عناية الله بهذا الأمر الكريم وما منَّ عليكم به من حماية حوزتكم وحفظ سياجكم، وتشكروه على ما منحكم من ائتلاف الكلمة وذهاب الفتنة والله يصل إكرامكم ويوالي احترامكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

(1/107)
Mouchmabir غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 11-02-2009, 02:16 PM
  #2
antigone
عضوة شرف
 الصورة الرمزية antigone
 
تاريخ التسجيل: Feb 2008
الدولة: المغـــ بلدي الحبيب ـــرب
المشاركات: 1,412
antigone is a jewel in the roughantigone is a jewel in the roughantigone is a jewel in the roughantigone is a jewel in the rough
افتراضي رد: كتاب نفاضة الجراب في علالة الاغتراب للسان الدين بن الخطيب

ينقل الى القسم المناسب
antigone غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر رد
مين بيعرف في الدين شيئ فل يدخل نجيد يوسف المنتدى الاسلامي 6 05-27-2010 06:20 PM
نفاضة الجراب في علالة الأغتراب grocha الإجتماعيات 3 01-07-2010 05:28 PM
كيف تتحصل على علامة متميزة في الفلسفة؟ عزيز منير الفلسفة 2 01-01-2009 12:48 PM


الساعة الآن 04:23 PM.



تعريف :

نجاح نت منتدى يهتم بجميع متطلبات مستعملي الإنترنيت وخصوصا البرامج وشروحتها وأمور ديننا الحنيف و المناهج الدراسية والألعاب...


جميع المواضيع و الردود المطروحة لا تعبر عن رأي المنتدى بل تعبر عن رأي كاتبها وقرار البيع والشراء مسؤليتك وحدك

Powered by vBulletin® Version 3.8.4
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd diamond