يولد الانسان مزوداً بمجموعة من الغرائز، منها: غريزة الموت وغريزة الحياة، وبين هاتين الغريزتين صراع مستمر، قد يؤثر تأثيراً مباشراً، في ترجيح كفة غريزة الموت على غريزة الحياة، التي تضعف في بعض الناس، فنراهم يقومون بكثير من الاعمال، التي تؤدي في الغالب الى الحاق الاذى والضرر بأنفسهم، وقد يؤدي ذلك في الحالات المتطرفة الى الانتحار.
فاذا كان الانتحار يعني طلب الموت.. فلماذا يُقدم الانسان عليه، وهو يعلم انه لن يعود الى الحياة؟.
- قد يقدم الانسان على الانتحار احياناً، كوسيلة للتخلص من الآلام النفسية والبدنية التي يعجز عن تحملها، او لرغبته الشديدة في الهروب من الحياة والتخلص من متاعبها وهمومها التي يعجز عن حلها، فالطالب - مثلاً - الذي يتكرر رسوبه في امتحان الثانوية العامة، يخشى اعادته مرة ثالثة او رابعة ويخاف عقاب الاهل وتأنيبهم له. والموظف الذي كثيراً ما يتعرض للاهانات والعسف من رئيسه، يصاب بالاحباط ويسيطر عليه اليأس من جدوى حياته، فيبدأ بصب جام غضبه على زملائه في العمل، او على زوجته واولاده، واحياناً قد يُقدم على الانتحار.
- واحياناً قد يحدث الانتحار، عندما يشتد خوف الانسان من توجيه عدوانه الى أي شخص او شيء خارجي، فتتحول دوافعه العدوانية مباشرة الى ذاته، فيأخذ يلومها ويؤنبها، ويحاول الحاق الاذى بها بشتى الطرق، سواء كانت شعورية او لاشعورية.
- وقد تحدث بعض حالات الانتحار، عندما يتقمص الانسان شخصيات الابطال او الرؤساء العظماء، او كبار المطربين والمطربات، والاتحاد الوجداني مع ذوات تلك الرموز السياسية والفنية التي اثرت في فترة ماضية في حياته. فاذا مات احد تلك الرموز، اعتقد من تقمص شخصياتهم، ان حياته اصبحت ناقصة وبلا معنى، والشواهد التاريخية تؤكد، ان بعض الناس قد انتحروا بعد موت الرئيس عبدالناصر والمطربة ام كلثوم والفنان المطرب عبدالحليم حافظ وغيرهم.
وقد يحدث الانتحار احياناً، كوسيلة اخيرة للحصول على ما حرم منه الشخص من حب وعطف وحنان، فالشخص المنتحر في هذه الحالة، قد يتخيل ان في موته لذة وهمية، تجلب له حب الناس واحترامهم بعد موته، وهذا ما فعلته الممثلة المشهورة مارلين مونرو، ذات الجمال الاخاذ والانوثة المتدفقة، التي بحثت عن الحنان الابوي المفقود، فتزوجت من كبار السن المشاهير، علها تجد العطف، وكان آخر ازواجها الكاتب الاميركي المعروف آرثر ميللر، الا ان جميع تلك الزيجات فشلت في تلمس هذا العطف الابوي المفقود.
فأقدمت على الانتحار، بعد ان افرطت في تناول المشروبات الكحولية والعقاقير.
وقد يحدث الانتحار احياناً، لرغبة جنسية مفرطة، تتسلط على تفكير الانسان وحواسه، وتدفعه الى الانتحار بمحبوبه الذي مات، ومن الامثلة التاريخية لهذا النمط الانتحاري المميز: قصة روميو وجولييت، وقيس وليلى، واحياناً يحدث الانتحار نتيجة تحول مشاعر الحب الى الكراهية والبغضاء، فالشخص المنتحر يقوم بتوجيه عدوانه الشديد، الى الصورة العقلية الموجودة في ذاته لمن احب باخلاص في حياته.. كما قد يحدث الانتحار كرد فعل لخسارة تجارية فادحة، او لفقدان ما يملك الانسان من مدخرات في مضاربات البورصة المالية وسوق العملات، او لثبوت حالات الفساد المالي والاداري والسياسي على بعض الشخصيات المسؤولة.
واليوم.. هناك ما هو اخطر من الانتحار الفردي، وهو حالات الانتحار الجماعي التي تطورت نوعاً وكماً، ويٌقدم عليها سائقو الحافلات الكبيرة والصغيرة، فيأتي الموت فيها بالجملة، بلا رحمة او ضمير او خلق نبيل.
وازاء هذا كله نقول: من قتل نفسه بأي وسيلة من الوسائل، فقد قتل نفساً حرم الله قتلها بغير حق، لأن حياة الانسان ليست ملكاً له. فهو لم يخلق نفسه، ولا عضواً من اعضائه، او خلية من خلاياه، وانما نفسه وديعة استودعه الله اياها، فلا يجوز التفريط فيها، فكيف الاعتداء عليها بالقتل؟ قال تعالى: ولا تقتلوا انفسكم، ان الله كان بكم رحيماً النساء: 29.
ان الأديان السماوية الكبرى مجتمعة، قد انذرت من يٌقدم على جريمة الانتحار، بحرمانه من رحمة الله في الجنة واستحقاق غضب الله في النار، وان ضعاف العزائم والمتهورين من السائقين لو تأملوا معاني الحديث النبوي لما فعلوا جريمتهم. قال عليه السلام: (من تردى من جبل فقتل نفسه، فهو في نار جهنم يتردى فيها خالداً مخلداً فيها ابداً، ومن تحسى سماً فقتل نفسه، فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً فيها مخلداً فيها ابداً، ومن قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يتوجأ بها في نار جهنم خالداً مخلداً فيها ابداً متفق عليه..
وبعد.. هل يعقل ان يضحي الانسان بنفسه من اجل صفقة يخسر فيها قليلاً او كثيراً، او من اجل امتحان يفشل فيه، او فتاة صدت عنه او امرأة ماتت قبله؟.

تحياتي// كلثوم

__________________