:: إنجاز يستحق الانتباه ::

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. تعقيباً على ما كتبه الأخ خالد العوفي باتهام الهيئة بمطاردة امرأة وصدم سيارتها ومصادرة جهازها المحمول والذي نشر في جريدة الرياض يوم الاثنين 14 صفر 1430هـ العدد (14840) في صفحتها الأخيرة(36) بالخط العريض وما أعقبته جريدة "الرياض" على الهيئة أيضا في يوم الأربعاء 16 صفر 1430هـ في عددها (14842)، فأقول لي وقفات حول ما نُشر في الآتي:


أولا: ينبغي للإنسان أن يكون منصفا فيما يكتب وينشرـ لاسيما إذا كان الأمر يتعلق بأمة أو بمجتمع أو بجهاز حكومي لا بأفراد ـ ويحفظ لكل أحد قدره، دون أن يتعصب له، أو يبالغ في ذلك، أو يتبع أقواله بمفرداتها ـ دون تمحيص أو تدقيق أو تحقيق ـ؛ فإن الاتباع للمنهج، لا للأقوال المفردة، والعبرة بالدليل والبرهان، ولو خالفه من خالفه، فإذا وجد الدليل فيما يظهر لنا على خلافه لم نجد حرجا في رده.


ثانيا: أن الخلاف يكون في الوسائل وليس في المقاصد ومحكمات الشريعة، فالمقاصد شرع متفق عليه مما هو في حفظ الضروريات الخمس، قال أبو حامد الغزالي:" مقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم؛ فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة ". اهـ [ المستصفى (1/287) ]. والدعوة إلى الهذ تعالى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي من المقاصد الشرعية المتفق عليها، وأجمع المسلمون على وجوبها وأنها فرض إما عينا أو كفاية، قال سبحانه: ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ) [النحل:125]. وقال سبحانه: ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) [آل عمران:104].
والتصحيح مطلوب، ولكن بالرحمة والشفقة، وبقلب محب ناصح يتحرى الخير، ويؤثر حسن الظن، ويقدم العذر، ويحفظ حقوق الأخوة أو الجهة المعنية، ويجب الحذر من حظوظ النفس الخفية التي قد تحدث فرحا بالغلط الذي يقع من أخيك لا سيما من جهاز كجهاز الحسبة، ولماذا ننتظر دائما من الآخرين أن يغيروا مواقفهم، ولكننا لا نقوم نحن بهذا الدور فنغير من إعلامنا وصحافتنا وننزل الناس والأجهزة والجهات منازلهم، وبالتالي نخلط بين الثبات على الدين وبين التمسك برأي شخصي أو فردي؛ لأنه سبق إلى سمعنا أو تلقيناه من مصادر حاقدة أو مغرضة ، حتى ولو كان رأيا مرجوحا.


ثالثا: لا يجوز للإنسان أن ينشر خبرا لم يتحرَ الدقة في تمحيص بلاغه وظروفه وملابساته، ولا ينبغي أن يأخذه من طرفٍ واحد ومن ثم يتطاير به فرحا ويبالغ في تحريره، ويتصل بشاهده وكأنه ضابط أو محقق أو قاضٍ، ولا ننفي أن الأصل قبول الشهادة، لكن متى تيقنت العصبية وغلب على الظن أنها هي الدافع للشهادة لم تقبل، وينبغي أن نعلم أن الفقهاء ذكروا أن دعوى الحسبة في حق الله تسمع، وأن شهادة المدعي فيه تقبل؛ لأنه لا يجر إلى نفسه نفعا ولا يدفع عنها ضررا، وأما غيرهم من الشهود فلا بد من تزكيتهم وسماع الطعن في شهادتهم.
وإذا تقرر هذا فإن الأشخاص القائمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر معروفون بالعدالة والأمانة، ولا ينبغي فتح باب الجرح فيهم وفي جهودهم، وإذا فتح هذا الباب فهو في غير محله، وإن كان ولا بد فالنصيحة لها أبواب غير ما نشر.


رابعا: هل تثبتت "الرياض" فيما جرى في مطاردة الهيئة للمرأة أو عدمها؟ وعلى هذا ينبغي ألاّ نبالغ في النقل، أو ننقل كلاما كاذبا، أو أن ننتقي حسب ما نشتهيه، أو نضخم الأمور؛ لكونها مما يوافق هوى النفس.


خامسا: كيف تتهم جريدة "الرياض" الهيئة بمصادرة جهاز المرأة مع أن فضيلة مدير عام فرع الرئاسة العامة بمنطقة الرياض بالنيابة أفاد بأنه: " تم التحفظ على حقيبة كان السائق يحاول إخفاءها ". وفرق بين المصادرة والتحفظ، فلا بد من الدقة في استعمال الألفاظ ـ فضلا عن نشرها ـ وترك الحكم قبل التصور. أضف إلى هذا أن الهيئة ليست الجهة المخولة نظاماَ في مصادرة الأشياء أو المضبوطات أو ردها أيضا، وبالضرورة فإن الهيئة أعلم بهذا الإجراء.


سادسا: كيف تحكم "الرياض " على أن المرأة مصدومة لا صادمة، مع أن الجهة المسؤولة عن تقرير الحوادث هي إدارة المرور؟!


سابعا: هل من الإنصاف والعدل ربط هذه القضية بقضايا سابقة...؟ ولماذا ننسى أو نتناسى ما عند هذا الجهاز من الخير، ونترك إعانته ولا نقف معه باستعمال أنجح الوسائل، ولماذا ننسى دور الهيئة التي تنبري للمواقف الصعبة وتتصدى لها، وتقوم بواجب من الشريعة قد يفوت غيرهم القيام به، بل إن الحاجة إلى الهيئات قائمة؛ لأن هناك فئة من الناس لا يصلح لهم ولا يتجاوب مع تكوينهم وعقولهم ولا يأخذ على أيديهم إلاّ مثل هذا الجهاز، وبهذا نعلم أن الشرع المطهر قد وضع التدابير اللازمة لحفظ الأعراض والأنساب ومن حفظها حرم خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية عنه واختلاط الرجال بالنساء وما شابه ذلك من المنكرات المتفشية في وقتنا الحاضر، فحفظ الأعراض والأنساب يُعدّ من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فكان من الواجب علينا الاهتمام بهذا الجهاز ـ أعني الهيئة ـ غاية الاهتمام، وإعطاؤه من العناية قولا وفعلا وتعاونا على ذلك ما يسبب استقامة الدين، والنجاة من غضب رب العالمين.
قال العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ ـ رحمه الله ـ في فتاواه (6/167) :" فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، والمهم الذي ابتعث الله له الأنبياء والمرسلين، فلو طوي بساطه وأهمل علمه وعمله لفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، وخربت البلاد، وهلك العباد، قال الله تعالى : ( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون ) [الروم:41]. فنعوذ بالله من اندراس هذا المهم العظيم، واستيلاء المداهنة على القلوب وذهاب الغيرة الدينية "اهـ .


ثامنا: إن قول "الرياض" بإدانة الهيئة وبدون شك...، يقال: لا بد أن يفرق بين الإدانة والاتهام، ومن الجهة المسؤولة عن ذلك ؟ فالإثبات لا بد له من أدلة، كما أن أدلة الإثبات ليست على درجة واحدة، فبعضها يكفي لمجرد رفع الدعوى الجنائية وهو ما يكفي فيه الترجيح وتسمى بأدلة الاتهام، وبعضها ما يجب أن يصل إلى حدّ اليقين ويسمى بأدلة الإدانة.
وعلى هذا علينا معرفة الفرق بين الإدانة، وبين ثبوت عناصر التهمة عند توفر الأدلة، كما أن توجيه الاتهام في القضايا الجنائية هو من اختصاص هيئة التحقيق والادعاء العام، والإدانة من اختصاص وتقدير القضاء. أما الخطأ وما يصدر من بعض الجهات الرسمية أو الحكومية فلها جهات أخرى مسؤولة عن البت فيها، ومن ثم تقدير إدانتها أو عدمها.


تاسعا: لو فرضنا أن هذا الجهاز أصبح مضايقا للناس ويحتم ضرورة التدخل في أوضاعه، فإنه ينبغي لنا كمنصفين أن نتساءل وهل الإعلام المعاصر وبخاصة سلك الصحافة أدى دوره الكامل وتجاوز مرحلة الأخطاء التي تعيق تقدمه؟ وهل الصحافة أدت دورها الإعلامي النبيل؟ مع ما فيها من إيجابيات ولا ينكر، إلاّ أنه من الملاحظ أن الهدم فيها أكثر من البناء مما جعلها ـ في غالبيتها ـ أسبابا للفساد الخلقي. ينظر [التركي، الفساد الخلقي في المجتمع (ص 128،127].
ثم يقال: وهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في زماننا أصبح منكرا في عرف بعض الإعلاميين؟ أما علموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو مدار رسالة الرسل التي بُعثوا من أجلها، فهم يدعون إلى كل خير ويحذرون من كل شر، فهو زبدة الرسالة ومدار البعثة ولهذا فهو من أخص صفات رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: ( الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر) [الأعراف:157].
وجعل هذا الوصف أيضا من أخص أوصاف من اصطفاهم من سائر البشر؛ ليكونوا أتباعا لرسله وأنبيائه فقال سبحانه ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ) ، وذلك بعد أن اعتبر الوصف المضاد لذلك من أخص أوصاف أضدادهم في المنهج والمعتقد والمصير فقال عن المنافقين ( المنافقون والمنافقات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ) ] التوبة : 67[ ] وينظر الطبري ، في تفسيره(4/47)[.
وقال سبحانه مبينا أشرف أوصاف المؤمنين : ( التائبون العابدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين ) ] التوبة:112[ . فلا يملك من سمع هذه الآية ـ وغيرها من الآيات ـ إلا أن ينضم تحت رايتهم ، ويسلك سبيلهم ، لعله يلحق بهم أو بركبهم .
ومثل هذه الأوصاف لم يقف الأمر عند هذا فحسب بل وصفت هذه الأمة بالخيرية وأنها خير الأمم كما قال تعالى ـ وقد تقدم ـ: ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ) ، فمن اتصف من هذه الأمة بهذه الصفات دخل معهم في هذا المدح كما قال قتادة :" بلغنا أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ في حجة حجها رأى من الناس رعة ـ أي سوء أدب، فلم يحسنوا الكف عما يشين ـ ، فقرأ هذه الآية ( كنتم خير أمة ...) ثم قال : من سرّه أن يكون من هذه الأمة فليؤد شرط الله فيها " . ومن لــم يتصف بذلك أشبه أهـــل الكتاب الذين ذمهم الله بقوله : ( كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه ...) ] المائدة : 79[ ] وينظر : ابن كثير ، في تفسيره (1/396 )[ . وبهذا يعلم أن بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون صلاح حالنا في المعاش والمعاد .


وقبل الختام أقول: ليس من شيماء الأخوة، وأهل المروءة والكرم تدوين الملاحظات ورصد أخطاء الآخرين، ونشرها أمام الجماهير ـ لاسيما جهاز الحسبة، مع أن غيرهم بالغوا في التجاوزات؛ ولهذا ينبغي الحكم على الأجهزة الأخرى دون استثناء ـ. ولماذا لا نسلك ونستخدم أسلوب الدفع بالتي هي أحسن، كما ينبغي ألاّ نثأر لأنفسنا، أو نغضب لذواتنا قدر المستطاع، وأن نتحمل ما قد يصدر من إخواننا، وما أحسن أن نتحمل لحظة غضب أو غيظ أو أذى نلقاه من غيرنا، فضلا ممن نُصبوا لحماية أعراضنا وأمننا.


وختاما أقول: حال الهيئة مع منتقديها يصدق عليهم قاعدة : عندما تُرفس وتُنتقد، تذكر أن ذلك يبعث في نفس الشخص الآخر شعورا بالأهمية. كما أن ذلك يعني أنك أنجزت شيئا يستحق الانتباه.


وقاعدة: إن الأشخاص السوقيين يجدون لذة في اكتشاف أخطاء وهفوات الرجال العظام.
هذا ما سمح به الوقت تعقيبا على إحدى الجرائد من إعلامنا سائلا المولى عز وجل أن ينفع بذلك وأن يهدينا لأحسن الأخلاق ويحفظ بلادنا ويعز أمتنا ، والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


كتبه/ د. محمد بن فهد الودعان
الرياض في 18/2/1430هـ


:: لنقل الموضوع ::

هذا رابط الموضوع في ملف تكست بالتنسيق

للتحميل هنا